هارب من درعا: الجيش السوري سلمنا أسلحة لنقوم بدور «عصابات مسلحة»

قال إن الشبيحة يراقبون القادة العسكريين وأحوال الناس تتدهور بشكل متسارع

صورة ماخوذة من موقع «شام» لمظاهرات لنصرة حماة في درعا
TT

«أنا لم أهرب خوفا من الموت، فأنا كنت أذهب إلى الموت بقدمي كل يوم خلال المظاهرات، وتعرضت للرصاص مرات عدة، ولكني هربت خوفا من الاعتقال وما فيه من إهانات نفسية وجسدية قد لا يدركها من هو خارج سوريا».. هكذا تكلم أحد السوريين الفارين من محيط مدينة درعا السورية، التي يعتبرها الكثيرون مهد الاحتجاجات التي تضرب سوريا منذ ما يقرب من خمسة أشهر.

شاهد العيان السوري رجل أربعيني يعمل موظفا بالحكومة السورية، التقته «الشرق الأوسط» في إحدى محافظات مصر النائية، ليروي تفاصيل ما يحدث في درعا ومحيطها، وعلى الرغم من أنه ظل متماسكا طيلة اللقاء الذي استمر لما يزيد على الساعة، فإن نبرة صوته كانت محملة بالكرب والحزن الممزوج بالقلق على مستقبله ومستقبل بلاده وأبنائه.

الشاهد، الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط»، شريطة عدم ذكر اسمه خوفا على حياته وحياة أقاربه الموجودين بسوريا، خاصة أن الأمن اعتقل بعضا منهم لإجباره على تسليم نفسه، كان عضوا نشطا في حزب البعث السوري في إحدى المدن التي تبعد عن درعا بما لا يزيد على عشرة كيلومترات، لكنه مزق بطاقة هويته بالحزب في ملتقى حاشد مع آخرين اعتراضا منه على أنهار الدماء التي أسالها الحزب في درعا. المثير أن الشاهد يعترف أنه انضم كملايين السوريين للبعث لإيجاد عمل، حيث إن عضوية البعث هي مفتاح العمل في سوريا، كما يقول.

ويروي الشاهد، الذي سمى نفسه «أبو ماسا» عن اقتحام الجيش والقوى الأمنية لمدينته الصغيرة، حيث قال: «حاصروها بالدبابات وبالشاحنات المسلحة، ثم حدث إطلاق نار كثيف يصم الآذان، لدرجة أنني لم أكن أسمع حديث من بجواري، ثم دخلوا المدينة وعاثوا فيها فسادا بحملة اعتقالات واسعة».

ويكشف أبو ماسا استباحة الجنود للبيوت بشكل مبالغ فيه، وعن وجود استهداف لكل الشباب بطريقة مهينة، مما دعا المئات من شباب المدينة للمبيت في المزارع والأماكن المهجورة، خوفا من الاعتقال، كما أن الأمن يقتحم البيوت الفارغة ويسكن بها بعد أن يعيثوا فيها فسادا.

وكشف أبو ماسا أن أول يوم من وجود القوى الأمنية بمدينته تم اعتقال ألف شخص بطريقة عشوائية، معظمهم من الشباب، وتم تعذيبهم والتنكيل بهم لمدة شهر، وعلى دورات متتابعة، على حد قوله.

الملفت أن أبو ماسا قال: «يتم اعتقال عشرات من أهالي المدينة في أفرع أمنية متعددة، بعضهم يكون مطلوبا لفرع أمني ويبحث عنه، بينما هو في الأصل معتقل لدى فرع آخر». ويصف أبو ماسا تفاصيل اقتحام الجنود للمنازل قائلا: «هناك نوع من الإهانة لحرمة السيدات حتى المسنات منهن لم يسلمن من الأذى». وشرح كيف يضيف بكاء الأطفال وصراخهم بعدا دراميا على الاقتحام الذي شبهه باقتحامات قوات الاحتلال.

وأوضح أبو ماسا أن الجنود يطالبون الأهالي بترديد: «لا إله إلا بشار»، وإلا أفرغوا لهم الطحين والماء والزيت أرضا، وهو ما يحدث فعلا، ويصف أبو ماسا الوضع في مدينته بـ«المزري»، حيث قال: «المدينة لا تمارس عملها الطبيعي. الناس في كرب وغم عميق، فالموسم الزراعي انهار، والناس في حالة مادية مزرية، وهناك معاناة اقتصادية ونفسية كبيرة. أغلب الناس لا تملك الفلوس لتسيير حالهم وعلى الرغم من ذلك فإن الناس تساعد بعضها بعضا، وتقتسم اللقمة بينهم.. المدينة محلاتها مغلقة طوال اليوم، عدا الصيدليات التي تفتح لفترات صغيرة ومتقطعة».

المثير أن أبو ماسا كان جزءا من المسيرة الحاشدة المشهورة التي خرجت من عدة مدن في محيط درعا يوم الجمعة 29 أبريل (نيسان) تحمل الطعام والماء لدرعا المحاصرة آنذاك، وروى كيف حدثت مجزرة اليادودة، التي قضى فيها 62 شابا، حيث قال: «خرجنا بشكل سلمي، لا نهتف إلا بالحرية، والله لم يكن بأيدينا إلا الورود والماء والطعام لأهل درعا، وبعد اجتيازنا جسر اليادودة، وبالقرب من درعا، نصبت القوى الأمنية لنا كمينا غادرا، وأطلقت علينا النار من كل الجهات ليسقط على الفور 62 شخصا وآلاف المصابين». وأضاف أبو ماسا: «صديق لي سقط بجواري مباشرة بطلقة قناص في منتصف رأسه».

ثم يروي أبو ماسا كيف تفرقت المسيرة، حيث سقط الكثيرون أرضا ودُهس الآلاف تحت الأقدام تحت وابل الرصاص، الذي كان الغرض منه القتل، لا التخويف، حسب كلامه. وقال: «ما إن عادت المسيرة إلى المدينة حتى اقتحم رجال الأمن المستشفيات؛ حيث حاولوا اختطاف المصابين منها، لكن الأهالي كانوا أخلوها بعد تضميد الجرحى وإعادتهم لبيوتهم، خشية قتلهم أو اعتقالهم».

ويقول أبو ماسا: «المخابرات الجوية اقتحمت المستشفى واعتقلت إداريين به لأكثر من 12 يوما». وكشف أبو ماسا عن وجود جواسيس من ذوي النفوس الضعيفة يعملون لصالح الجيش في كل المدن السورية.

ونفى أبو ماسا ما يروج له النظام عن وجود عصابات مسلحة، حيث قال إن «الجيش السوري هو من عرض تسليمنا أسلحة ليقوم الإعلام السوري بتصويرنا على أننا عصابات مسلحة سلمت نفسها»، لكنه ضمن عشرات غيره رفض ذلك تماما، وهو ما جعله مطلوبا من الأمن السوري بتهمة التحريض على المظاهرات وتمويلها، وهو ما علق عليه قائلا: «لا أملك من حطام الدنيا شيئا، فكيف أمول ثورة؟!».

أبو ماسا الذي تعامل مع قيادات الجيش في مدينته يروي أن اللواء المسؤول عن مدينته طلب منه تهدئة الأهالي وعدم ترديد شعارات تشتم الرئيس بشار، وهو ما لم يحدث بطبيعة الحال، لتتعرض المدينة لوابل كثيف من إطلاق النار ليلا لترويع الأهالي. وكشف أبو ماسا أن الشبيحة يقومون بمراقبة لواءات الجيش السوري خوفا من انقلابهم على القيادات العليا والنظام، حيث يقول: «من سمح لي بالدخول لقائد الجيش كان فردا من الشبيحة، كما أن اللواء تلقى مكالمات تسأله عن الضيف الذي يستقبله، بطبيعة الحال الشبيحة أبلغوا قادتهم أن مدنيا يقابل قائدا للجيش».

أبو ماسا روى بصوت ونبرات حزينة رحلة هروبه من سوريا، بعد أن علم بأن القبض عليه أصبح مسألة وقت، فاسمه يتصدر قائمة المطلوبين على 18 حاجزا أمنيا للقوى الأمنية والجيش في مدينته الصغيرة.

وعن ذلك يقول: «بدأنا الهروب في الساعة الحادية عشر مساء، والأرض كانت مليئة بالحفر والطين، ثم اعترضنا خندق كبير على الأراضي الأردنية، لم نتمكن من عبوره، فسرنا بمحاذاته وقتا طويلا من الزمن حتى اجتزناه، وسلمنا أنفسنا للأمن الأردني ومنه جئت للقاهرة».

ورفض أبو ماسا أن ينهي حديثه لـ«الشرق الأوسط» قبل أن ينقل عبرها معاتبة مدينته وكل المدن السورية للعرب على نسيانهم لأهل الشام في محنتهم، حيث قال: «لا نطلب منهم الدعم، ولكن نطلب منهم رفع الدعم الإعلامي والمعنوي عن بشار الذي يستبيح دماءنا».. المثير أن أبو ماسا ينشط الآن على الإنترنت لفضح النظام السوري، على حد قوله، عبر نشر مقاطع الفيديو وخلافه، لكنه اختتم حديثه قائلا: «أتمنى أن أعود لأقضي العيد في سوريا بعد الخلاص من بشار».