تركيا: النخبة العلمانية تخشى تعاظم نفوذ أردوغان وعودة البلاد إلى «الحقبة العثمانية»

يتهمونه بـ«القضاء» على الجيش.. وتضييق الخناق لتحويل تركيا إلى دولة مشابهة للعراق أو إيران

رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، متوسطا كبار جنرالات الجيش خلال زيارة سابقة لضريح مؤسس تركيا الحديثة كمال اتاتورك (ا.ف.ب)
TT

توقف رجال متقاعدون في هذه المدينة، التي تظهر فيها التلال وأسقف مغطاة بألواح خشبية حمراء اللون وتتبدى فيها مشاعر الغضب من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، عن لعب الورق. وعبروا عن مخاوفهم إزاء استقالات احتجاجية قدمها معظم قادة الجيش التركي، في موقف أظهر تأثير أردوغان خلال حقبة يمكنه وصفها بأنها حقبته الخاصة.

«لقد قضى على الجيش».. بهذه العبارة علق ريت كورت، بينما كان جالسا على طاولة تحيط بها صور مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، الذي طالما حافظ الجيش على مبادئه. وأضاف صديقه أوزديمير ألماس: «حامينا الأكبر هو الجيش». وتساءل كورت: «من سنثق فيه حاليا؟ من؟».

بدت الاستقالات التي قدمها الأسبوع الماضي قائد الجيش وقادة القوات البحرية والبرية والجوية بالنسبة للكثيرين تضع، رمزيا، النهاية لأشد خطر يتهدد الحكم المدني في تركيا، ولتصرف الجيش فوق القانون مثلما حدث عندما نفذ 3 انقلابات منذ عام 1960 وأجبر حكومة أخرى على التنحي عن السلطة عام 1997. لكن بالنسبة إلى منتقدي أردوغان، لا سيما بين النخبة العلمانية، فإن هذه الخطوة برهنت على قدرة أردوغان على بسط نفوذه على المؤسسات المهمة بالبلاد، مع تراجع الجيش أمام إجراءات شديدة من جانب القضاء استهدفت ضباطا كبارا بالجيش.

وداخل سيليفري، وهي مدينة مشهورة بأزهار عباد الشمس وسجن فسيح يحاكَم فيه بعض هؤلاء الضباط، تجد أن هذه المشاعر قوية مثل أشعة الشمس المنسابة على شواطئ بحر مرمرة على بُعد دقائق قليلة. وكثيرا ما يسمع في هذه المدينة التي يقطن فيها 44 ألف تركي وتقع على بعد مسافة ساعة بالسيارة من إسطنبول مخاوف مناوئيه، وهم أقلية سياسية، من أنه لا يوجد من يحميهم في دولة يحكمها أردوغان منذ 8 أعوام.

أشار إرسين باموك باتجاه سجن سيليفري، المحاط بأسلاك شائكة وأشجار صنوبر مزروعة حديثا، وتجرى فيه إحدى المحاكمات العسكرية، وقال ضاحكا: «لو قلنا شيئا، سيضعوننا هناك!».. وبينما كان يسير مع عائلته في شاطئ ضيق، أصبحت نبرته أكثر جدية، وقال عن أردوغان: «بالطبع كان قويا، والآن أصبح أقوى». واستطرد: «إنهم يضيقون الخناق حولنا أكثر وأكثر وشيئا فشيئا، وبعد ذلك سنكون مثل العراق أو إيران. لا يوجد من يستطيع تحدي نفوذه بعد الآن».

ومنذ أن فاز حزب العدالة والتنمية بأول انتخابات له عام 2002، أشرف الحزب على عملية تحول داخل هذه الدولة التي يعيش فيها 73 مليون تركي، وهو تحول كان له منتقدوه. وظهرت تركيا كقوة حاسمة في منطقة لطالما سيطرت عليها الولايات المتحدة. ويشهد اقتصادها نموا، على الرغم من معدلات البطالة. وتعزز من الاقتصاد طبقة رأسمالية ناشئة تأتي من مناطق محافظة في أجزاء أناضولية نائية غازلها أردوغان.

لكن على الرغم من اكتساب تركيا قدرا أكبر من الحداثة، وبينما أصبحت الدولة أكثر ارتباطا بالمنطقة المحيطة بها، تستمر نقاط اختلاف قديمة لها علاقة بالنهج المحافظ والليبرالي والقومي والإسلامي والديني والعلماني. وفي محادثات داخل تركيا، بدا خوف من أن يكون أردوغان قد حول السلطة بشكل حاسم بعيدا عنها. وفي الواقع يبدو أن الشعور بالخوف هو المبدأ الكامن وراء معارضتهم؛ حيث إن الخوف مما قد يقوم به أردوغان (57 عاما) يتجاوز الخوف مما قام به بالفعل.

ويقول باتال سونار، وهو متقاعد يبلغ من العمر 58 عاما كان يستريح مع عائلته على الشاطئ: «نحن متجهون إلى الظلام. نحن نعود للخلف إلى الحقبة العثمانية». وعبرت زوجته إنسي عن موافقتها على ما يقول بإيماءة بوجهها. وأضافت: «نشعر بالقلق الشديد بشأن نمط حياتنا».

وتحدثت عائلة سونار وآخرون عن ضباط شرطة في المباني التي يعيشون فيها يتحولون إلى التدين ومسؤولين محليين يحاولون الحد من تناول المسكرات في شوارع إسطنبول وسياسة خارجية في العاصمة أنقرة تبدو متجهة إلى منطقة الشرق الأوسط أكثر منها تجاه الغرب وأوروبا. وقد اقتبس وزير الخارجية أحمد داود أوغلو في إحدى المرات مرسوما عثمانيا في كلمة له، وهي مناسبة بدت ككناية لإعادة الارتباط بماضٍ عثماني لطالما سعت تركيا الحديثة للنأي بنفسها عنه.

لكن يقر حتى الكثير من منتقدي أردوغان بأنه لم تظهر أجندة دينية مشكوك فيها لحزبه، على الرغم من نهجه المحافظ. ويبدو أن الخوف عبارة عن شعور بالقلق إزاء القوة الانتخابية للحزب، ويأتي أردوغان في قلبها، الذي يمثل تحالفا للمحافظين والمحرومين والأثرياء الجدد، والذي قد يبقى في سدة الحكم لأعوام مقبلة. وقد أعطى هذا النجاح للحزب نفوذا غير مسبوق على مؤسسات الدولة – المحاكم والجامعات ووسائل الإعلام الإخبارية والجيش - حاليا.

وتقول سيفدا، ابنة سونار: «لن يذهب هؤلاء الناس أبدا.. إنهم يعملون بجد، وهم أذكياء، كما أنهم منظمون جدا وسيجلبون نظامهم».

بيد أنه ما زالت هناك إشارات في تركيا على أن الخلافات القديمة تحظى بأهمية أقل؛ فالحزب الذي تصرف كثيرا كحامل لواء أتاتورك، الذي أسس للجمهورية التركية عام 1923، يتجنب حاليا نقاشات حول الدين والعلمانية. وعلى الرغم من تاريخه الزاخر بالقومية الشرسة، فإنه يتواصل بحذر مع الأقلية الكردية التي تعيش في جنوب شرقي تركيا. وأظهر استطلاع رأي أجرته العام الماضي شركة «إكسارا» المحلية أنه توجد دلائل على أن هذه الهويات القديمة أصبحت غير واضحة، لا سيما بين الشباب. وذكر ثلث الشباب، الذين دعموا أردوغان، «الكمالية»، وهي الآيديولوجية العلمانية لأتاتورك، على أنها إحدى هوياتهم. وذكر 15% من أنصار منافسه الرئيسي أن الإسلام إحدى هوياتهم.

ومن حين لآخر يتم تجاوز الخطوط داخل سيليفري. احتفى جزار، يدعى إيهان يمن، صوت لحزب المعارضة الرئيسي في انتخابات يونيو (حزيران)، بما سماه «سلطوية» أردوغان، كان يتحدث كنوع من الإطراء. وقال: «نحتاج إلى شخص يضرب على الطاولة فيهزها. في الماضي كان في مقدور الصحافيين أو الجيش الإطاحة بالزعماء. ولا يمكن لأحد القيام بشيء معه». وبدت عملية التوفيق بين الخلافات غير مؤكدة، بينما كانت المخاوف التي ذكرها الرجلان المتقاعدان في المقهى داخل سيليفري أكثر شيوعا. وُلد الاثنان بعد أن أسس أتاتورك للدولة بوقت قصير، والآن في خريف عمرهما يشاهدان التحول الذي يحدث في البلاد. يقول كورت: «لا يمكننا أن نثق في الجيش، ولا يمكن أن نثق في المسجد، ولا يمكن أن نثق في الشرطة». وتساءل: «من يجب أن نثق فيه؟ من؟ يجب أن نثق في أحد». وقال صديق آخر يدعى محرم يوكسل: «يجب أن يكون رئيس الوزراء للجميع، لنا جميعا. لكنهم لا يتعاملون معنا على قدم المساواة. إنهم ليسوا منصفين». وتوقف لدقيقة ثم استطرد: «ليكن الله في عوننا».

* خدمة «نيويورك تايمز» - خاص بـ«الشرق الأوسط»