وزير مصري سابق: جمال مبارك اعتمد على «قوة دفع هشة» ولم يكن واثقا بمستقبله السياسي

أصدقاؤه قالوا إنه أربك المحيطين به وتسبب في خلافات بين الرئيس السابق وزوجته

جمال مبارك (رويترز)
TT

حول طاولة بلاستيك مستديرة فوق النجيلة الخضراء عام 1998 تحدث جمال مبارك بطريقة تشبه طرق الحكام الشموليين الذين يبدون تواضعا مع استظهار للشخصية الديمقراطية، لكن في تجهم أيضا. لكن لم تكن هناك قوة دفع واضحة تجعل هذا الشاب يهتم بالشأن العام.. صوت يأتي من الأعماق دون أن يمر على الشفتين أو على عضلات الوجه.

تحدث جمال عن القضية الفلسطينية وآثار الحصار الدولي لصدام والقذافي، ومستقبل مصر في عالم تحيطه نذر الحروب والحصار، دون أن يعكس رنين الصوت ميلا إلى اتجاه واضح. في الحقيقة هذا يخلب اللب، لكنه يتركك حائرا أيضا باعتبار أن هذا الرجل عليه أن يسلك طريقا واضحة. وطيلة نحو عشر سنوات من العمل السياسي المباشر كانت طائفة من المساعدين تتولى عمل كل شيء لجمال. ويقول أحد المقربين منه: «بالنسبة للتعامل مع الرأي العام أو الظهور على الملأ كان مشكلة.. حتى المؤتمرات الصحافية التي كانت تبدو عفوية، كان يتم ترتيبها له بطريقة معقدة». جمال المولود عام 1963 درس في الجامعة الأميركية بالقاهرة ثم التحق بالعمل في بريطانيا من خلال «بنك أوف أميركا» منذ منتصف الثمانينات، أي حين كان والده في أولى فترات حكمه. كابن رئيس موجود في لندن التف حول جمال كثير من رجال الأعمال والسياسية من المصريين والعرب والأجانب. ويقول صديق قديم له عمل لفترة رئيس تحرير صحيفة قومية قبل ثورة 25 يناير التي أطاحت بحكم مبارك: «مشكلة جمال حسن ظنه في من حوله.. يعتقد أنهم يفعلون كل شيء له عن طيب خاطر. أي أن هذا شيء عادي، وأنه يستحق هذا. وأي تعامل لا يضعه في بؤرة الاهتمام لا يعيره بالا.. إذا لم يلهمه من حوله فإنه لا يتحرك. يمكن أن تسمي هذا قوة الدفع التي كان يحتاج إليها، لكنها كانت قوة مبنية على غير أسس».

ويزيد: «جمال كان يتألق في مؤتمرات الحزب السنوية.. يعمل طيلة أيام المؤتمر الثلاثة دون انقطاع.. نشفق عليه من الانخراط في العمل، لكن في الأيام التالية لا نكاد نراه.. إذا ظهر يبدو بملامح جامدة مكتئبا وغير مرتاح وغير مستعد للدخول في مناقشات فرعية».

ويقول مسؤول سابق في نظام مبارك: «أعتقد أنه منذ كان في لندن بدأ جمال يشعر بأهميته. لكن من خلال المسار الذي سار فيه، بدا مستسلما لقوة دفع.. قوة الدفع هذه ربما لم يدرك من يقف وراءها منذ ذلك الوقت حتى اليوم. وأنا أقول إن تشابكات مصالح متعددة الأطراف هي من أدت إلى ذلك، وعزتها احتمالات أن يخلف والده في الحكم، وأثرت على النظام وعلى مصر».

ويقول المسؤول السابق، وهو بدرجة وزير: «مبارك الأب كان يشعر منذ البداية أن المصريين لن يتقبلوا بروز ولديه على الساحة، وهذا تسبب في خلافات بين مبارك وزوجته التي كانت متحمسة لولديها، خصوصا بعد نشر لقصص عن نفوذ الأخوين جمال وعلاء. هذا كان أمرا غير مسبوق في صحف محلية».

واختفى علاء عن مشهد حكايات النفوذ الاقتصادي، ليبدأ جمال في الظهور على خشبة المسرح السياسي. في هذا الوقت من أواخر التسعينات، حين كان جمال يضع قدميه على طريق السياسة، زادت مظاهرات العمال. جماعات إسلامية ويسارية تسيطر على عدة نقابات، لكن العمليات الإرهابية جعلت السلطات تتبع نهجا متشددا تجاه معارضيها، بعد وقوع تفجير إرهابي بالأقصر عام 1996، وعليه تم تعيين حبيب العادلي وزيرا للداخلية. وستتوثق العلاقة بين جمال وأصدقائه والعادلي، حتى تجمعهم زنزانة اتهام واحدة بعد الثورة. كان جمال موفدا مع وزير الإسكان لتسليم مجموعة مختارة من الأسر شققا رمزية بمشروع ترعاه والدته بالقاهرة الجديدة.. لم يغير جمال الطاولة التي جلس إليها مع الوزير، رغم أن الوزير غير مكانه عدة مرات بسبب مداخلات يجريها مع من حوله.. وفي وقت متأخر من المساء قال جمال حين عاد الوزير وبعض الصحافيين للطاولة البلاستيكية إنه يفكر في تأسيس جمعية أهلية تضم الشباب القادرين على خدمة مصر.

كانت هذه من المرات القليلة التي يقترح فيها جمال اقتراحا. قال ذلك دون أن يبتسم أو ينتظر تعقيبا، كما يتذكر صديقه القديم، الذي يضيف: «ربما كانت طريقة تنشئة جمال هي السبب.. الجدية والصرامة التي اكتسبها من والدته».

لكن بعد أشهر تبين أن جمال تسبب في إغضاب والده منه. كان هذا أمرا غريبا أن يعلم قطاع من المصريين أن الرئيس استحضر ابنه وأنه أخذ يوبخه بين أروقة القصر، وأن الأم كانت تدافع عنه. كانت هذه من أولى التسريبات حول أسرة الرئيس. هذا لم يكن مسبوقا في ظل حكام عسكريين تعاقبوا على السلطة بمصر منذ عام 1952. لم يكن مسموحا حتى بنشره. ويضيف الوزير السابق قائلا إن الأجهزة الأمنية التابعة للرئاسة قدمت حينذاك تقريرا لمبارك يقول إن جمال وعددا من أصدقائه من بينهم رجال أعمال تقدموا للحصول على ترخيص رسمي لجمعية أهلية تحمل اسم «جمعية مبارك للتنمية». ويقول هذا الوزير الذي عمل في عدة مواقع بالقرب من نظام مبارك لما يقرب من ثلاثين عاما، إن الرئيس السابق حذر نجله من الزج باسمه في مشروعاته ومشروعات أصدقائه. في عام 1998 اضطر جمال وأصدقاؤه إلى تغيير اسم الجمعية إلى اسم «جمعية جيل المستقبل». كانت تضم قطاعات من رجال أعمال، بينهم أعضاء في غرفة التجارة المصرية الأميركية بالقاهرة. وظهر بعضهم أيضا في عضوية مجلس الأعمال الرئاسي المصري الأميركي.. تزامن ذلك مع تزايد نشاط السيدة سوزان مبارك ورعايتها لمشروعات إسكان ومجالس للمرأة والقراءة. يقول الوزير السابق: «المقصود هنا أن النشاط الاقتصادي والاجتماعي أخذ يتماس مع الشأن السياسي.. بالنسبة لجمال ووالدته أيضا، وفي مصر هذا يعني أن هناك شيئا خطأ».

«لا أحد يعرف من أشار على جمال بهذا..»، يقول الوزير السابق، ويضيف: «هذه الخطوة.. نعم.. أقصد حين أخذ جمال يفتتح مع وزراء آخرين مشروعات تابعة للدولة ترعاها والدته.. هذه الخطوة بدأت بتسليم شقق جديدة للشباب، واتسعت خلال عشر سنوات، حتى وصلت إلى وضع الخطط الاقتصادية والسياسية للدولة، من خلال أمانة السياسات بالحزب الوطني».

ويضيف: «مع ذلك لم يكن من السهل الحصول على ابتسامة من جمال إلا في ما ندر.. استمر متجهما ومترددا في كثير من الأمور. المشكلة كانت في من حوله.. كانت أيضا في التحديات التي كانت تواجهه وتواجه مصر. كان غير واثق من أن الطريق الذي يسير فيه سيصل به إلى غايته».

في ذلك الوقت كان هناك خوف في أوساط رجال السياسية ممن تربوا أيام الاتحاد الاشتراكي الذي يقدس الزعيم.. يشعرون بأن الأمور تتغير، لكن هذا لم يكن من اليسير إدراكه في حينه. كان كمال الشاذلي ورفيقه لسنوات في السياسة، الدكتور يوسف والي، يهيمنان حينذاك على شؤون الحزب الذي يرأسه مبارك. طريقة عمل الشاذلي ووالي كانت تمثل حسب المراقبين رابطا بين الشارع وقصر الرئاسة، بسبب العلاقات التي تربطهما بمفاتيح القيادات الشعبية المحلية في المدن والريف، وتدخلهما السريع لإطفاء أي حرائق سياسية قبل أن تتسع.

وهنا تذكر الوزير السابق كلمة عن الشاذلي: «إذا نفخت في بالونة فلا بد أن يكون نفخك إلى حد معين، وإلا انفجرت في وجهك». والشاذلي توفي العام الماضي، لكن السلطات القضائية تحقق مع ورثته في شبهة فساد. ووالي محبوس على ذمة التحقيقات في قضايا أخرى. والرجلان كانا مكروهين من المعارضة، لكنهما كانا يتركان الباب مواربا. وفي أوج سلطانهما تم تجريف ألوف الأفدنة من أجود الأراضي الزراعية، وجرى بيع القطاع العام، والاستمرار في تزوير الانتخابات.

وفي بداية الألفية زاد نشاط جمال من خلال «جمعية جيل المستقبل»، ومن خلال غرفة التجارة المصرية الأميركية. كانت جمعيته توفد أعضاء لدول غربية للتدريب على التعامل مع الرأي العام والتوجيه السياسي. وفي البرلمان بدأت مشروعات قوانين تصاغ في الغرف البعيدة وتكلف الحكومة بإحالتها إلى البرلمان، رغم أنها كانت في الأصل دراسة مقدمة من أحد أعضاء الجمعية والغرفة الأميركية، بما في ذلك خصخصة البنوك.

ويقول الوزير السابق: «حينذاك حاول الشاذلي ووالي احتواء جمال ودمجه مبكرا في الحزب، لكن (الجيل الجديد) كان قد أحاط جمال بعازل فولاذي لا يمكن اختراقه، بل أدخله في مواجهة مع الشاذلي ووالي باعتبارهما قادة (الحرس القديم)، وساعد على ذلك عدم ميل جمال للكلام.. أعتقد أن صمته وعدم رغبته في فتح قنوات بنفسه مع الآخرين أيا كانوا هي من أسباب عدم إدراكه للصورة العامة التي كانت عليها البلاد.. أنا شخصيا لا أعرف لماذا دائما يظل جمال صامتا. عرفته عن قرب، ويمكن أن أقول لك إنه مؤدب وخجول، لكن أعتقد أنه ربما ينتابه شعور بأنه أكبر من الجميع، أو أن من حوله هم من أقنعوه بذلك.. ربما». ويضيف: «بدأ أعضاء الحزب يفدون إلى مقره في القاهرة لحل المشكلات.. وتراكمت في شهرين أربعون ألف مشكلة حزبية، لم يتمكن جمال ولا أصدقاؤه الجدد في الحزب من حلها، واضطر مبارك إلى الاستعانة بالشاذلي، لكن جمال لم يعترف قط أنه غير قادر على إدارة الحزب، وترك كل الأمور تقريبا لأحمد عز وأفكاره في السياسة والاقتصاد. كان عز من قوى الدفع الرئيسية لجمال، وما دام عز موجودا فإن الحصان مستمر في جر العربة».

يعتبر عز (رجل الأعمال المحبوس حاليا على ذمة التحقيقات) من أكثر المقربين من جمال منذ محاولته الأولى تأسيس جمعية تحمل اسم مبارك الأب، إلى أن أصبح مهندس الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي يفوز فيها بالأغلبية مبارك وحزبه، بعد أن دخل مع جمال للحزب الوطني بقوة في عام 2002 في ضربة للجيل القديم. وتردد قبل عامين أن جمال مبارك يمكن أن يكون مقبولا من المؤسسة العسكرية لو تخلى عن أصدقائه من رجال الأعمال وعلى رأسهم عز.

وخرج والي وتبعه الشاذلي وحل مكانهما رجال مبارك الابن. كان البعض يلاحظ أن الوجوه التي تتقلد مناصب في الدولة تأتي من مكانين أساسيين: المجلس القومي للمرأة الذي ترأسه سوزان مبارك، والمجلس الأعلى للسياسات الذي يرأسه جمال. ويقول الوزير السابق: «كان رجال المال والأعمال القادمون من هاتين الجهتين يمثلون قوة دفع لجمال مبارك إلى الأمام. قوة دفع موصولة مع عالم المال والأعمال في المنطقة والعالم، لكنها قوة هشة على الصعيد الداخلي.. في الحقيقة كان الدفع يسير بجمال إلى مقعد الرئاسة، والمشكلة أنه هو نفسه لم يكن واثقا، ولم يعطِ قط إجابة واضحة أو قاطعة حول هذا الأمر». كان زملاء جمال الذين أصبحوا وزراء، بعد أن كانوا مجرد أعضاء في «جمعية جيل المستقبل» وغرفة التجارة الأميركية، يقولون إن توجههم هو مزيد من الانفتاح الاقتصادي والمالي من أجل سرعة الخروج بمصر من النظام الاقتصادي الشمولي الموروث من ثورة 1952، وكان المعارضون يتساءلون: «لماذا لا نخرج من النظام السياسي الشمولي أيضا بنظام ديمقراطي خالٍ من التزوير؟». وكانت الإجابة جاهزة: الخوف من الإسلام السياسي. وبرهن الحزب الحاكم على هذه الإجابة بشكل صريح حين ترك أصدقاء جمال الذين أصبحوا قيادات في الحكومة والحزب يحتفلون بسقوط جميع معارضي الحزب من إسلاميين ويساريين وغيرهم في انتخابات برلمان 2010.