معارك الإسلاميين تربك «الربيع العربي» وترجع بالهوية مائة عام إلى الوراء

من اتهامات بالتكفير وتحريم القومية والديمقراطية.. إلى أحلام بالخلافة

منصة لإسلاميين بميدان التحرير مرفوع عليها الأعلام لدولة الخلافة (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

«مدد يا سيدي مصطفى يا عجمي».. دعا خفير يدعى محمد من أتباع المذهب الصوفي، وهو يحرس في خوف ضريحا قديما يعود لرجل يقال إنه من قدامى المسلمين الصالحين، في ضاحية دار السلام جنوب العاصمة المصرية. والاحتفاء بأضرحة «الأولياء» وطلب المدد منهم أمر محرم عند بعض الإسلاميين. وأضاف الخفير: «أصبح من الصعب الفرز بين الخيرين والأشرار.. المصريون مشغولون بلقمة العيش وليس لديهم وقت».

ومن شاشة صغيرة شاهد الخفير الصوفي أنظمة حكم تتساقط بعد أن حظرت لعقود إقحام الدين في السياسة، في حين يرى شبان من الثورة المصرية أن معارك الإسلاميين أصبحت تربك «الربيع العربي»، وتعود بالجدل حول هوية المنطقة لنحو مائة عام إلى الوراء. ويقول محمد، إنه سيشارك مع مليون صوفي وغيرهم في مظاهرة بميدان التحرير يوم الجمعة المقبل، ردا على مظاهرة نظمها منذ نحو أسبوعين نحو مليون من أنصار الخلافة، غالبيتهم سلفيون وجهاديون و«إخوان» رفعوا فيها رايات سوداء وشعارات متشددة أثارت تفكير المراقبين داخل مصر وخارجها.

ويفصل جسر صغير متهالك بين ضريح الشيخ مصطفى العجمي، ومسجد التوحيد الذي تشرف عليه الدولة بالمنطقة المعروفة باسم «الملأة». وتكثر على جوانب الطرق هنا، مثل غالبية الضواحي الفقيرة بمصر، أكوام القمامة ومخلفات المباني والحيوانات النافقة والروائح الكريهة. ومن وسط الزحام عبر قرابة 50 من الملتحين في أيديهم سيوف تلمع تحت الشمس وسكاكين وعصي في شارع الفيوم الحيوي.. توقفوا أمام باب المسجد، وبدأت نذر حرب.

صرخت بعض النسوة من نوافذ قريبة مذعورات. وتوقفت حركة المواصلات. وأعلن الرجال في تحد أنهم من جماعة التكفير والهجرة، وهي جماعة متطرفة كانت محظورة في عهد الرئيس السابق، حسني مبارك. وقال أحدهم في لهجة حاسمة: «لا نريد سُنيين ولا شيوخا من الأوقاف هنا. مسجد التوحيد تحت سيطرتنا منذ الآن».

ويقول الخفير الصوفي، إن المتشددين حاولوا منذ أيام الرئيس الراحل أنور السادات الذي اغتاله إسلاميون، المنع بالقوة لأي احتفالات بذكرى ميلاد ولي من الأولياء الصالحين في أرجاء مصر، بما في ذلك مولد «سيدي العجمي» هنا. ومنذ سقوط نظام مبارك اعتدى أتباع لحركات إسلامية متشددة على أضرحة وعلى مصريين مسلمين وغير مسلمين. ويعلن بعضهم صراحة تحريم الآثار باعتبارها أصناما وأوثانا، وتحريم الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية لأنها «ليست من القرآن والسنة»، وينادي آخرون منهم بـ«شورى الفقهاء» بدلا من الانتخابات النيابية «التي تغلب مصلحة العامة على مصلحة الشرع»، حسب قولهم.

وبطبيعة الحال، بالنسبة للخفير محمد، ليس الوقت وقت نقاش عما هو صواب أو خطأ، لأن توقف حركة المرور في شارع الفيوم المكتظ بالسيارات كارثة تصل آثارها عبر الجسر وتدفع الناس للعراك حيث يغطي الغبار الوجوه القلقة في حر رمضان. تدخل عدد من العقلاء سريعا، للفصل بين الإسلاميين الأعداء أمام مسجد التوحيد، ولمنع وقوع مذبحة. وبعد يوم آخر وصلت الخلافات إلى داخل البيت الصوفي نفسه بشأن الانخراط في المظاهرات. وخلال نهار واحد وصلت منشورات صوفية بعضها يدعو إلى مظاهرة الجمعة، وبعضها يعتبرها من «إثارة الفتن التي تضر بكيان الوطن».

يقول هاني خليفة، العضو في ائتلاف شباب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) و«جمعية مصر مدنية»، إن الاقتتال بين إسلاميين وبعضهم وبين إسلاميين ومخالفيهم، كما حدث في الماضي، أمر قابل للتكرار إذا لم تتدخل الدولة لفرض القانون.. «الحسم يجنبنا خوض تجارب سيئة مستقبلا كتجربة طالبان أو حزب الله.. الناس لا يشعرون بتحسن معيشتهم. الأسلحة تستخدم في معارك اجتماعية تقوم لأتفه الأسباب، فما بالك بالمعارك الدينية، لا قدر الله».

ويقول المراقبون إنه من أجل إسقاط نظم ديكتاتورية في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا وغيرها تلاحمت بشكل عفوي، وبفعل الغضب الشعبي الجارف، تيارات إسلامية متباينة مع تيارات علمانية ومدنية في مظاهرات مليونية ما زال بعضها مستمرا حتى الآن. وبعد نجاح الحشود السلمية في التخلص من مبارك وبن علي، بدا أن النقاش العام حول الهوية يعود إلى ما كان عليه في مطلع القرن الماضي، أي إبان صراع النفوذ بين الغرب الذي ناصر القومية التركية والعربية، ضد كيان دولة الخلافة العثمانية.

إذن «انفتحت الأبواب على مصاريعها من جديد»، كما يقول هاني خليفة ويضيف: حين رفع الإسلاميون المصاحف والأعلام السوداء في ما يسمونه «ولاية مصر» مطالبين بعودة الخلافة، وتحكيم الشريعة بدأت التيارات المدنية تبتعد عن أي تعاون معهم.. «هل يوجد خوف؟ نعم يوجد خوف. تاريخ الحركات الدينية ارتبط في مصر بالعنف والدم، والآن بدأ الخطر يلوح في الأفق». وجماعة التكفير والهجرة، التي كان خليفة شاهدا على ما قامت به أمام مسجد التوحيد في شارع الفيوم، واحدة من جماعات دينية متشددة ظهرت على السطح بقوة منذ نحو أربعة عقود وأثارت الفزع على نيل القاهرة حينذاك ثم انتشرت في دول عربية كتونس والجزائر قبل أن تحاصرها السلطات الأمنية في مصر وتعدم قائدها، شكري مصطفى، القادم أصلا من جماعة الإخوان المسلمين.

لكن جماعة التكفير والهجرة عادت منذ بداية هذا العام مع تيارات إسلامية معروفة بغلوها في الدين للعمل علانية في السياسة. وتم السماح لهذه التيارات بتأسيس أحزاب ومنابر وملأ قادتها الفضائيات التلفزيونية ووسائل الإعلام باللغط، مما زاد من مخاوف القوى الديمقراطية والليبرالية محليا ودوليا، من وصول إسلاميين يفرضون حكما دينيا شموليا يثير القلاقل في بلدان تتقاطع مصالحها مع المصالح الدولية.

يقرأ المناضل العمالي اليساري المعروف في القاهرة، سيد عبد الراضي، وهو من سكان ضاحية دار السلام، خارطة الإسلاميين بعد سقوط مبارك، قائلا إنهم أصبحوا يتركزون، بأحزابهم وحركاتهم، في تيارين متداخلين تقريبا، الأول مع الدولة المدنية بمرجعية إسلامية (بينهم قطاعات من الحركة الصوفية و«الإخوان» وبعض السلفيين). والجناح الثاني مع الدولة الإسلامية الكاملة (بينهم حزب التحرير الإسلامي وغالبية السلفيين وقطاعات كبيرة من متشددي جماعة الإخوان المسلمين).

ويعني عبد الراضي بذلك أنه يوجد داخل كل جماعة من جماعات الإسلام السياسي تيارات متعارضة أيضا، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين. ويقول: «حين تنظر إلى مجموعات سياسية تغير من مواقفها كل يوم، فهذا أمر مخيف. حين تنتقد مواقف لسياسيين دينيين توصم بالكفر. هتفنا لصالح الدولة المدنية، لكن الإسلاميين هجموا علينا، ولما خرج من بينهم صوت معتدل هجموا عليه أيضا». ويضيف: «بعد سقوط مبارك كان هذا أكبر تحرك على الأرض للإسلام السياسي».

ومن بين بيارق الإسلاميين ارتفعت شعارات تخوين وتكفير وإقصاء للآخرين، ومعها بيارق سوداء أيضا. وأصيب الشاب محمد صفاء الدين بالدهشة من قلب المشهد، وهو خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة، وعضو في ائتلاف ثورة 25 يناير، وعضو في حزب التجمع (اليساري) بمصر. كما أنه من سكان مدينة حلوان، لكنه ينشط ضمن شباب الثورة في ميدان التحرير وفي بؤر العمل السياسي في ضواحي دار السلام ومصر القديمة والمعادي.

يستعيد صفاء الدين ما حدث: «هربنا من الإسلاميين إلى مقر حزب التجمع القريب من ميدان التحرير.. تأكد لنا أنهم انقلبوا علينا، وإذا واتتهم الفرصة سيفترسوننا كما فعل رجال الدين في إيران بأنصار الدولة المدنية بعد سقوط الشاه». وسوف يشارك هذا الشاب وعدة ألوف من المطالبين بالدولة المدنية مع قطاعات من الصوفيين، في مظاهرة يوم الجمعة. لكن صفاء الدين يستطرد متشككا في جدوى الخطوة: «تسييس الدين يشتت العقل».

طوال أكثر من ثلاثين سنة قمعت أنظمة الحكم في دول عدة بالمنطقة أنشطة الإسلاميين والمعارضة المعتدلة. لكن يبدو أن كل ما حدث هو تأجيل ظهور التيار الديني المتشدد إلى أن تفجرت الأوضاع في نهاية المطاف، كما يقول صفاء الدين.

ويضيف: «في السنوات الماضية رأيت الأعلام السوداء في نشرات الأخبار في جبال اليمن وأفغانستان والجزائر، لكن حين رأيتها في ميدان التحرير أصبت بالفزع.. لم نقم بالثورة من أجل هذا.. لا تعرف من يعمل لصالح من.. وما هي الأطراف الإقليمية ذات المصلحة. الإسلاميون أنفسهم منقسمون. لا يوجد شيء واضح».

حزب التحرير الإسلامي الذي أصبح يعمل بحرية في مصر وتونس، أقر بأنه لا يؤمن بالانتخابات والديمقراطية ومدنية الدولة، لأن كل هذا كفر، ويرى الحزب أن تيارات الإسلام السياسي الأخرى تسير على نفس النهج لكنها لا تفصح في الوقت الراهن عن توجهها الرامي لتأسيس دولة الخلافة. ولهذا فالحزب لديه خلافات مع الإسلاميين الآخرين.

يقول عثمان بخاش، مدير مكتب الإعلام المركزي لحزب التحرير الإسلامي، عبر الهاتف من بيروت، إن حزب التحرير شارك في ثورة 25 يناير بمصر، وما زال أعضاؤه يشاركون في فعاليات صناعة مستقبل مصر وتونس. ويزيد بخاش: «نحن في حزب التحرير عادة نرفع الراية السوداء المكتوب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله). هذه راية الإسلام.. هذه رايتنا باستمرار، ولن نرفع سواها».

ويزيد بخاش: «الإخوة في (الإخوان) يميلون إلى الأخذ بالمرحلية في رفع الشعارات والقرارات والطروحات، بينما نحن نرى أن علينا أن نرفع المطالب الإسلامية كاملة غير منقوصة.. ندعو إلى تطبيق أحكام الله، ونأخذ بنظرة الإسلام الذي يحرم القضية القومية والوطنية، ويرفض الدولة الديمقراطية العلمانية». ويضيف بخاش أن حزبه يشارك في الثورة العربية و«ينشط في مصر وتونس وليبيا وسوريا والأردن واليمن ولبنان.. نحن ننظر إلى الأمة نظرة واحدة».

إذا كان موقف الحزب ضد الديمقراطية، فما موقف أنصاره من الانتخابات البرلمانية القريبة بمصر. يجيب بخاش: «الانتخابات التي تقر الحل الإسلامي بإقامة دولة إسلامية لا مانع منها، أما الانتخابات حين تكون جزءا من مشروع علماني ديمقراطي فهذا مرفوض ولا يجوز شرعا».

ومن جانبه يقول المحلل الإيراني في الشؤون الإسلامية، صباح الموسوي، عن المشتركات التي تجمع التيارات الدينية، إن «الإسلام السياسي قائم ليكون دينا ودولة.. هذا يدفع الحركات الإسلامية إلى التمسك بالعمل السياسي وحشد الناس حوله، وصولا إلى دولة الخلافة». ويضيف أن «الكثير من التيارات الإسلامية يرى أن الديمقراطية تعتمد رأي الأكثرية حتى وإن كان مخالفا للشريعة. هذا مرفوض لديهم. أما الشورى التي ينادون بها فتعتمد على التوافقية، وأعضاؤها يعتبرون من أهل الحل والعقد».

هل هو كالنموذج الإيراني؟ يجيب الموسوي: «لا.. لأن الثورات العربية تختلف عن الثورة الإيرانية.. في مصر مثلا الحكم القادم سيكون قائما على صوت الشعب، ولن يكون هناك تفرد للإسلاميين»، لكن هذا التفاؤل قد لا يكون ذا معنى دون وضع ضمانات للالتزام بالديمقراطية ومدنية الدولة. وبالنسبة للبسطاء مثل الخفير محمد الصوفي، لا تعنيه الشروح الكثيرة، بقدر ما يعنيه كنس قاذورات الشارع وحماية ضريح «وليه الصالح، سيدي العجمي» من خطر المتشددين.