جدار برلين يحرك الذاكرة مجددا ويكشف عن «آثار»

مهندس يشتغل على نصب تذكاري: مهمتنا أن نجعل المكان يتحدث عن نفسه

TT

وقف غونتر شلوشيه في المكان الذي كان يوما ما مقرا لمؤسسة «بيرنوار ستريت 10 A» أمام كتل من الطوب والملاط الإسمنتي التي لا تزال قائمة حتى الآن، تماما مثلما كانت عليه قبل نصف قرن عندما قام عمال ألمانيا الشرقية ببناء نوافذ المبني في اليوم الذي تم فيه بناء جدار برلين.

وقال شلوشيه عن المنزل الموجود على الحدود الذي تم إجلاء سكانه في الرابع والعشرين من سبتمبر (أيلول) 1961، ثم تم هدمه بعد ذلك بأقل من أربع سنوات: «إنه مثل السفينة الغارقة التي ظهرت لتعلن عن قصتها». وقد تم اكتشاف المؤسسة مؤخرا بينما كان العمال يقومون بتوسيع جزء من النصب التذكاري لجدار برلين الذي سيتم الكشف عنه اليوم بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسه.

وقال شلوشيه وهو يصرخ بصوت مرتفع حتى يتم سماع صوته وسط الضجيج الذي يحدثه مهندسو المناظر الطبيعية الذين يديرون الجزازات وينظفون أوراق الأشجار؛ استعدادا لاستقبال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي سوف تحضر حفل الافتتاح: «على الرغم من أنه قد لا يكون أحد المعابد اليونانية، فإن هذا هو علم الآثار».

وقبل عامين، احتفلت الحكومة الألمانية بالذكرى العشرين لسقوط الجدار، ووجهت الدعوة لمسؤولين من جميع أنحاء أوروبا، وكان هذا الاحتفال يهدف إلى الإعلان عن سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية، أما اللحظة الأكثر قتامة التي يجري تذكرها فهي في صباح يوم الثالث عشر من أغسطس (آب) عام 1961، عندما استيقظ سكان برلين ليجدوا أن الجنود قد نصبوا حواجز من الأسلاك الشائكة وأغلقوا حركة المرور على الطرق وخطوط السكك الحديدية بين برلين الشرقية وبرلين الغربية. وحتى يومنا هذا، ما زالت الذاكرة تزخر بالكثير من القضايا العالقة، حيث لم يقبل الألمان أبدا بناء الجدار الذي مزق مدينتهم لمدة 28 عاما وأقام حدودا يقوم فيها الألمان بقتل بعضهم بعضا لمجرد محاولة السفر داخل حدود المدينة الواحدة.

وكانت درجة التناقض فيما يتعلق بسقوط الشيوعية ونهاية دولة ألمانيا الشرقية واضحة للغاية في استطلاع للرأي نشرته صحيفة «برلينر تسايتونج» اليومية، حيث اعتقد ثلث سكان برلين أن بناء الجدار كان مبررا بصورة كاملة أو بصورة جزئية لوقف تدفق اللاجئين للغرب.

وقد تولى المهمة شلوشيه، وهو مهندس من برلين نسق بناء النصب التذكاري لمحرقة اليهود الموجودة على مسافة غير بعيدة من بوابة براندنبورغ، ليكون بمثابة قائد أوركسترا البناة ومهندسي المناظر الطبيعية والمصممين والرسامين، بهدف إنشاء نصب تذكاري على مساحة ما يقرب من ميل من الأرض حتى يساعد الألمان في النهاية على التصالح مع هذا الجزء من ماضيهم المعقد.

وكانت المشكلة التي واجهت شلوشيه وفريق النصب التذكاري لسور برلين، هي كيفية استحضار المشاعر المشؤومة للجدار. وقامت طواقم العمل بهدم أجزاء كبيرة من الجدار بعدما تم افتتاحه أخيرا في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989، في حين حصل السكان على قطع من الجدار لتكون بمثابة تذكار لهم. وفي غضون بضع سنوات لم يعد الزوار في كثير من الحالات قادرين على تحديد مكان ذلك الجدار الذي كان يمثل بقايا الحرب الباردة.

ويشبه النصب التذكاري غير الكامل الحدائق، حيث توجد حقول من العشب تتخللها منصات تحمل معلومات. وتم إعادة نشر صور شهيرة على جانبي المباني المجاورة، مثل صورة المصور بيتر ليبينغ التي تظهر جنديا من ألمانيا الشرقية وهو يرتدي خوذة معدنية، ويحاول بقفزة تشبه قفزات الباليه أن يعبر الأسلاك الشائكة إلى الحرية. وتتميز هذه الصورة بالقدرة على جذب الانتباه بسبب طولها الذي يصل إلى 20 قدما وتصميمهما باللونين الأبيض والأسود.

ومع ذلك، لا تزال أجزاء الجدار نفسه هي النقطة المحورية، فبالإضافة إلى الجزء الأصلي من الجدار، أقام العمال أعمدة معدنية بنفس الارتفاع – نحو 12 قدما – مصنوعة من الصلب الذي تحول إلى اللون الأحمر نتيجة الصدأ، والذي غالبا ما يستخدم في المنحوتات.

وقالت أنغريد بوتشير، وهي من سكان برلين لمدة 46 عاما، إنها كانت غير متأكدة من وجود الأعمدة الفولاذية عندما قرأت عنها في الصحف، ولكنها عندما وقفت أمامها قالت: «إنها موجودة حقا». لقد كانت بوتشير تستضيف بعض الزوار وكانت قد عادت لتوها من مشاهدة النقطة الحدودية المعروفة باسم نقطة حدود شارلي، التي قالت عنها إنها كانت «مجرد كرنفال».

ومن جهة أخرى، تعد «بيرنوار ستريت» أكثر تعبيرا، حيث يشمل العرض صورا للضحايا، بمن فيهم الأطفال الصغار الذين قتلوا وهم يحاولون عبور الحدود. ويستمع الزوار إلى شهادات عما كان يحدث أيام الجدار ويشاهدون مقاطع فيديو، بينما يسيرون على طول ما كان في السابق بمثابة ممر للموت، وعلى الجانب الشرقي من الجدار الذي كان يطلق منه الحراس النار على من كان يحاول العبور.

وقال أكسيل ماركوارت (46 عاما)، الذي نشأ في ألمانيا الشرقية سابقا بالقرب من ماغدبورغ: «ستموت أنت ويموت هو، وسوف أتوارى أنا بسرعة هناك». وتذكر ماركوارت أول مرة شاهد فيها الجدار، حيث كان ذلك في فصل الشتاء، وكان يرى أثر كلاب الحراسة على الثلج. وقال إنه شاهد الدوريات وهي تمر وقال لنفسه: «لن تتمكن أبدا من عبور تلك الأمتار العشرة أو ما يقرب من 30 قدما».

وعادة ما يكون هناك خلاف حول مكان الجدار، وقالت هوب هاريسون، وهي أستاذة التاريخ والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، إن الحقد أو العداء المتبقي حتى اليوم يوجد بين الألمان الشرقيين، حيث يقومون بتأليب ضحايا الحكومة ضد أولئك الذين عملوا لحساب النظام. وكانت هاريسون في ألمانيا خلال الشهر الحالي بهدف الترويج لترجمة كتابها الذي يشرح بالتفصيل كيف حاول السوفيات مقاومة مطالب زعيم ألمانيا الشرقية، فالتر أولبرخت، بعزل برلين. وأضافت هاريسون: «في أوساط المؤرخين الألمان والخبراء الألمان أصبح من المسلم به الآن أن أولبرخت كان يريد إغلاق الحدود، ولم يكن السوفيات يريدون ذلك، ولكن لا يزال معظم الألمان يلقون باللائمة على السوفيات والحرب الباردة والصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي».

وقال شلوشيه إنه على الرغم من الخلاف المتبقي، فإن هذا المشروع كان أقل إثارة للجدل من النصب التذكاري لقتلى اليهود في أوروبا، الذي صممه المهندس المعماري في نيويورك، بيتر أيزنمان، والذي يتكون من 2.711 لوحا خرسانيا رمادية الشكل بارتفاعات مختلفة، والموجود على مسافة ليست بعيدة عن بوابة براندنبورغ. وأضاف: «لقد كان هذا مكانا رمزيا، في حين أن لدينا هنا الموقع الأصلي». وتوجد تحت قدميه شرائط من المعدن تظهر الأماكن التي تم فيها حفر أنفاق الحرية أسفل الجدار من قبل الألمان الشرقيين الهاربين، وعلى بعد أمتار قليلة يوجد النفق الذي قامت بحفره الشرطة السرية في ألمانيا الشرقية لمنعهم من العبور.

ويبلغ طول النصب التذكاري نصف ميل الآن، وسوف يمتد في نهاية المطاف إلى أربعة أخماس ميل، وقال شلوشيه: «مهمتنا هي أن نجعل المكان يتحدث عن نفسه».

*أسهم في كتابة التقرير فيكتور هومولا

*خدمة «نيويورك تايمز»