اللاذقية.. مدينة اختطفها رجال النظام من أهلها

الأحياء القديمة من المدينة تعاني من الحرمان.. والقادمون من أريافها من أقرباء الأسد ورجاله يعيشون في ترف مطلق

صورة أرشيفية لحاجز أمني في اللاذقية
TT

كانت اللاذقية من أول المدن، بعد درعا، التي نادت بإسقاط النظام السوري. لكن أحدا لم يكن يتخيل أن تخرج في هاتين المدينتين مظاهرات مضادة للنظام، بسبب وجود عدد كبير من المسؤولين في الدولة، وحزب البعث الحاكم، والمستفيدين، من أبناء محافظة درعا. كذلك، فإن معظم رجال النظام في الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية من الذين ينتمون للطائفة العلوية، هم من أبناء محافظة اللاذقية، عدا بالطبع عائلة الأسد المتحدرة من قرية القرداحة في ريف اللاذقية.

اللاذقية شكلت طوال أربعة عقود من حكم آل الأسد معقلا للمستفيدين من النظام من الأسرة والأقارب، والموظفين في الدولة، والمهربين (الشبيحة) من أبناء الطائفة العلوية. وبدلا من أن يعود ذلك على المدينة تميزا ومزايا، فقد حولها إلى منطقة مستباحة لفئة معينة من السكان، على حساب الفئات الأخرى التي تنتمي لأكثر من طائفة، أغلبهم من المسلمين السنة. وتعد اللاذقية الخامسة بين المدن السورية من حيث عدد السكان، الذي قدر في إحصاءات 2009 بنحو 650.558 نسمة، ينتمون لطوائف ومذاهب وأعراق متنوعة. فهناك مسلمون سنة، وعلويون ومسيحيون من طوائف عدة يشكل الأرثوذكس الغالبية منهم إضافة إلى الموارنة والكاثوليك. أما من الناحية العرقية، فيشكل العرب السوريون الأغلبية الساحقة، مع وجود أقليات أرمنية وتركمانية، تعيش في عشرين حيا، بعضها نشأ بعد السبعينات نتيجة توافد أبناء القرى والبلدات المجاورة للعمل فيها بعد تنشيط القطاع السياحي والحركة التجارية والاقتصادية.

تاريخيا، كانت مدينة اللاذقية تتألف من عدة أحياء قديمة يتركز فيها السكان الأصليون من المسلمين السنة والمسيحيين الأرثوذكس والطوائف الشرقية. وحصل فيها توسع من الجانبين الشمالي والجنوبي. جنوبا كان توسع الأحياء القديمة نحو العشوائيات والمخيم الفلسطيني، وشمالا نحو المشاريع السكنية الحديثة والمرافق السياحية. ومن أقدم وأكبر الأحياء، حي الشيخ ضاهر حيث يتركز المسلمون السنة. وبحكم قدمه وموقعه، شكل هذا الحي المركز التجاري وتجمع الأسواق. ويوجد فيه فرع مصرف سوريا المركزي وهيئة الرقابة والتفتيش، فضلا عن مدرسة جول جمال الأثرية وقصر المحافظة الجديد.

ويتبع لحي الشيخ ضاهر، حي الأميركان حيث يتركز المسيحيون. وسمي بهذا الاسم لاحتوائه على مدرسة البعثات التبشيرية الأميركية قبل الاستقلال. كما تنشط في هذا الحي المطاعم والمرافق السياحية. وكذلك هناك حي مار تقلا نسبة للقديسة تقلا، حيث يضم كنيسة أثرية تعود للقرن الأول مسماة على اسم القديسة تقلا ومقبرة أثرية بقربها. كما يضم أيضا مديرية الزراعة والمالية، وعددًا من مساجد المدينة الكبرى كمسجد العجان ومسجد عمر بن الخطاب.

وإلى جانبه، هناك حي العونية الذي يعد من الأحياء التاريخية في المدينة. ويعود سبب التسمية لكثرة «الأعيان» الذين كانوا يقطنونه في الماضي، وفيه سوق الذهب ومقر مطرانية الروم الأرثوذكس، كما أن فيه سوقا مقبيا. من الأحياء التاريخية أيضا حي القلعة الواقع على هضبة داخل المدينة تصنف على أنها الأعلى فيها، ولذا كان مدفع رمضان يطلق منه. بعد حي الشيخ ضاهر من حيث القدم والمساحة يأتي حي الصليبة، الذي منه انطلقت الاحتجاجات في اللاذقية، وهناك يتركز السنة من أبناء المدينة. يقال إن سبب التسمية إما لأن الصليبين سكنوا فيه أو لأنه تألف من شارعين متصالبين يلتقيان في قوس النصر الذي يعود للعهد الروماني ولا يزال شاخصا إلى الآن. في الثمانينات تمت توسعة الحي نحو «مشروع الصليبة»، وقريبا منه تأتي أحياء السكنتوري والطابيات وحي الرمل الجنوبي. والأخير ينقسم إلى جانبين، جانب يضم مخيم اللاجئين الفلسطينيين، وجانب عبارة عن مساكن عشوائية يعيش فيها الوافدون إلى المدينة وأغلبهم من محافظة إدلب ويطلق عليهم اسم «الشرقيين»، أي القادمين من جهة الشرق. ورغم وجود عدد من المرافق الحيوية والمهمة في هذه المنطقة، والتي تشغل نحو نصف مدينة اللاذقية، فإنها أحياء شعبية تعاني من الكثافة السكانية العالية المتلازمة مع سوء الواقع الخدماتي، والتي شكلت أساسا لاشتعال الانتفاضة في اللاذقية ضد نظام أدمن إهمال المناطق الشعبية.

في حي الكورنيش الغربي تتركز المشاريع السياحية. ويلاصق هذا الحي ساحل المدينة ويطل على مرفئها، ويتميز بأبنيته الفخمة والمرافق السياحية المتعددة فيه، ومنها كازينو اللاذقية. أما أبناء الريف من طبقة المسؤولين والموظفين الذين جاءوا من قرى اللاذقية، وغالبيتهم من الطائفة العلوية، فتركزوا في حي المشروع السابع الذي نشأ في الثمانينات. وسمي السابع من أبريل (نيسان) نسبة لذكرى يوم تأسيس حزب البعث. ويتميز بإشرافه على الطريق السريع المؤدي لخارج المدينة والمسمى أوتوستراد الثورة. وأخذت نواة سوق تجارية تتشكل في الحي فضلا عن وجود فروع لعدد من المصارف والشركات إضافة إلى المؤسسات الحكومية.

ويتميز هذا الحي بأبنيته الحديثة. ومن الأحياء الحديثة حي الزراعة، ويعد من التوسعات الحديثة المهمة، حيث تقع جامعة تشرين، واسمه الرسمي حي تشرين. وأيضا حي المشروع العاشر وهو من التوسعات الحديثة للمدينة، ولا يزال ينمو، ويتميز بأبنيته الفخمة، ويطلّ على الطريق السريع المؤدي إلى مدينة الأسد الرياضية وفندق الميرديان وكذلك الشاطئ الأزرق. ويحوي آثار قلعة هلنستية تعود للقرن الأول ومقبرة تعود للقرن الثالث. أما حي الرمل الشمالي فتتركز فيه مشاريع المتنفذين سياسيا وماليا ويتصل بالمنطقة التجارية الحرة. كما يعد المنفذ الطبيعي لتوسع المدينة الصناعي والتجاري. ويكتسب أهميته من حيث إن النشاط الاقتصادي يبدأ من خدمات الاستيراد والتصدير ومن ثم الأعمال المرتبطة بالسياحة والصناعة، إذ تنشط في المدينة عدد من الصناعات كالسجاد والألمنيوم والإسفلت وغيره.

لكن تنامي قسم من المدينة، والذي هو تحت سيطرة العائلة الحاكمة والموالين لها من رجال الأعمال والمال، من الوافدين إلى المدينة منذ استيلاء الأسد الأب على السلطة في سوريا، مقابل إهمال القسم الآخر والذي هو المركز التاريخي وموقع تركز السكان الأصليين، أدى إلى انزياح المركز الاقتصادي، وإلى انتشار شعور كبير بالغبن، تعاظم مع تردي حال الأحياء الأصلية، مقابل نمو وازدهار المناطق الحديثة.

اللاذقية الملقبة عن جدارة بـ«عروس الساحل» لجمال طبيعتها، تقع على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ضمن شبه جزيرة بحرية على بعد نحو 385 كم من الشمال الغربي للعاصمة دمشق، وهي المنفذ الأول للبلاد على البحر المتوسط والحاضنة لأكبر مرافئها، مما أكسبها موقعا تجاريا فريدا، وأغناها بالعديد من المرافق الحيوية والصناعية والتجارية. وهي أيضا مركز سياحي مهم لغناها بالمواقع الأثرية التي يرقى بعضها إلى العصر الفينيقي وحسبها أن أول أبجدية ظهرت فيها. كل ذلك جعل منها نعمة حرم منها أبناؤها الأصليون، لتستولي عليها فئة ضئيلة من جماعة النظام، ويتم إطلاق يد الشبيحة هناك، والذين كانوا على الدوام يفرضون قانونهم الخاص الخارج عن القانون، لا سيما في منتصف السبعينات وأول الثمانينات في أوج نشاط رفعت الأسد، شقيق الرئيس السابق حافظ الأسد. وبعد نفيه خارج البلاد، تقاسم هذا النفوذ رجال عائلة الأسد وأقربائهم من عائلات مخلوف وشاليش وغيرهما.

وحين انتفضت درعا، تردد الصدى في اللاذقية. واشتعلت احتجاجات لاقت أعنف وأشد قمع مارسه النظام في البلاد، بعيدا عن الإعلام، ومرت عدة أسابيع تراجعت فيها الأخبار الواردة من اللاذقية حتى ظن البعض أن النظام تمكن من السيطرة على الوضع هناك.. إلى أن تقدمت قوات النظام وبدأت بقصف حي الرمل الجنوبي.