البعض في روسيا لا يزال يحن إلى العهد السوفياتي

شاهد أصيب في «انقلاب» 1991: الأمور لم تسر كما توقعنا وبدأنا نتساءل عما أرقنا دماءنا من أجله

يلتسين يقترب من غورباتشوف لمصافحته خلال خطاب الأخير أمام الاجتماع الاستثنائي للمحكمة العليا في موسكو في 23 أغسطس 1991 (رويترز)
TT

أصيب غينادي فيريتيلني بطلق ناري وجرح عندما خرج وهو أعزل قبل 20 عاما للمساعدة في إيقاف تقدم طابور من عربات مصفحة في وسط موسكو، في واحدة من الإصابات القليلة التي وقعت خلال المحاولة الأخيرة الفاشلة لإنقاذ الاتحاد السوفياتي.

كانت تلك اللحظة التي تجمع فيها روس، غالبيتهم عاشوا تحت وطأة الحكم السوفياتي على مدى 74 عاما، في الشوارع لدعم رئيس المستقبل بوريس يلتسين، مطالبين بالتغيير الديمقراطي.

وأثار الكاتب فاسيلي أكسيونوف حماسة الكثيرين حين أشار إلى الانقلاب لمدة 60 ساعة بوصفه: «يحتمل أن تكون أروع الليالي في تاريخ الحضارة الروسية». ولكن بعد نحو 15 عاما من الانقلاب، أشار الرجل الذي يحكم روسيا الآن، وهو رئيس الوزراء فلاديمير بوتين، إلى انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه «أكبر كارثة جيوسياسية شهدها القرن».

وتأتي آخر استطلاعات رأي مع حلول ذكرى الانقلاب اليوم السبت، والتي لم يعلن عن أي احتفالات رسمية لإحيائها، أقرب إلى وجهة نظر بوتين منها إلى وجهة نظر أكسيونوف, حسبما لاحظت «نيويورك تايمز» في تقرير لها حول الموضوع. فقد ذكر عدد محدود من الروس أنهم ينظرون إلى أحداث عام 1991 بوصفها انتصارا للديمقراطية. وقال فيريتيلني، 54 عاما، الذي كان يعمل حينها سائقا: «في تلك الفترة في روسيا، وراء الستارة الحديدية، كنا قد سمعنا فقط عن الديمقراطية». وأضاف: «آمنا بالفعل بكلمة الديمقراطية الساحرة. غير أن الكثير من الأمور لم تسر على النحو الذي توقعناه. بدأنا نسأل أنفسنا عما أرقنا دماءنا من أجله».

وإبان العقد التالي، شوهت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الفوضوية، فضلا عن محاولات الإصلاح، سمعة الديمقراطية. فقد رحب كثيرون بالاستقرار الذي جلبه بوتين، حتى لو كان ذلك على حساب بعض الحريات الديمقراطية.

ففيريتيليني مجرد صوت واحد بين 140 مليون روسي، وفيما يشاركه كثيرون شعوره بخيبة الأمل، إلا أنه يبدو أن عددا كبيرا من الناس يقبلون القيود التي يفرضها بوتين على المنافسة السياسية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام الإخبارية. ومن غير المتوقع أن تغير الانتخابات المقرر إجراؤها بداية العام المقبل مسار الأحداث في روسيا.

كان فيريتيلني يتحدث قبيل أسبوع من ذكرى الانقلاب في منزل ليوبوف كومار، أم جندي شاب شارك في الحرب الروسية في أفغانستان، يدعى ديمتري كومار، والذي كان واحدا من بين ثلاثة رجال قتلوا في الليلة الأخيرة من الانقلاب. كان فيريتيلني قد تعرض لإصابة أثناء محاولته الإتيان بجثمان كومار، الذي قال إنه كان ملقى على عربة مصفحة، بينما كانت تتحرك للأمام وللخلف بشراسة محاولة إزاحة حافلة كهربائية كان قد تم تحريكها لعرقلة مسارها. وقال: «رأيت الرجل في السيارة المصفحة. مددت يدي للمساعدة، فتعرضت لإصابة في كتفي. اعتقدت أن شخصا ما سيأتي ويأخذ الجثمان، لكن السيارة تحركت للخلف وللأمام إلى أن سقطت الجثة على الأسفلت».

انسحبت السيارات المصفحة والدبابات بعد ذلك بوقت قصيرة، مسجلة نهاية انقلاب كان هدفه قيادة دفة التغيير. وفي 25 ديسمبر (كانون الأول)، تنحى الرئيس ميخائيل غورباتشوف، مسطرا نهاية الاتحاد السوفياتي.

ومنذ ذلك الحين، عمل فيريتيلني كهربائيا ومحققا بالشرطة، ويعمل الآن رجل أعمال صغيرا على هامش الاقتصاد الروسي. وحتى وقت قريب، كانت زوجته تعمل بوظيفة مديرة لإحدى الشركات والتي كانت تحصل منها على راتب كبير، ولكن تم تسريحها أثناء الأزمة الاقتصادية. وقالت إنهما كانا ينعمان بحياة مريحة.

ولا تزال كومار، التي تعمل كمعاونة في ناد صحي، تبني حياتها على ذكرى ابنها. تستحضر مشهد فيريتيلني، قائلة: «لو كان باستطاعة ابني أن يتبين ما سيؤول إليه وضع الدولة، لما شارك في أعمال قمع الانقلاب». وقالت وهي تجلس في شقتها، المحاطة بالصور التي تجسد المراحل العمرية المختلفة لابنها منذ أن كان صبيا حتى أصبح ضابطا، إنها قد ابتعدت عن الحياة السياسية. وتابعت قائلة: «لم أصوت في الانتخابات منذ 10 سنوات. سيدبرون أمورهم من دوني. إنهم يختارون من يريدونه، إذن، لم علي أن أدلي بصوتي؟».

وكشف استطلاع أخير أجرته وكالة استطلاع الرأي المعروفة «ليفادا سنتر» أن 20 في المائة من الروس يشاركون السيدة كومار رغبتها في الرجوع إلى عصر الاتحاد السوفياتي، وهي النسبة التي تأرجحت ما بين 16 و27 في المائة على مدار الثماني سنوات الماضية. ومن غير المثير للعجب أن من بين هؤلاء المؤيدين للاتحاد السوفياتي غورباتشوف الذي حاول الإصلاح والإبقاء على الاتحاد السوفياتي، لكن عرقله الانقلاب، ثم يلتسين وزخم الأحداث.

وقال غورباتشوف، 80 عاما، في مؤتمر صحافي يوم الأربعاء: «البعض يقول مرارا وتكرارا إن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أمرا محتوما». وأضاف: «لكني ما زلت أؤكد أنه كان من الممكن الإبقاء على الاتحاد السوفياتي».

وهاجم غورباتشوف، من ناحية أخرى، القيادة الروسية في الكرملين، مطالبا بتخليها عن السلطة. وقال إنه «حان الوقت للخروج من الدائرة الضيقة التي تدور فيها البلاد لإتاحة الفرصة أمام آخرين في انتخابات حرة بدلا من الاستمرار في مداولات الغرف المغلقة». وكشف النقاب عن المداولات التي تدور بين الرئيس ديمتري ميدفيديف ورئيس حكومته بوتين، حول احتمالات عودة بوتين إلى الكرملين أو التجديد لميدفيديف لفترة ولاية ثانية، مشيرا إلى أن نتائج الانتخابات الرئاسية المرتقبة العام المقبل سيحددها ما ستسفر عنه هذه المداولات. وأكد غورباتشوف ضرورة تجديد دماء القيادة وعدم قصر الأمور على كليهما وحسب. ووصف الزعيم السوفياتي السابق ما يجري بين بوتين وميدفيديف بأنه محاولة لاحتكار السلطة، وتكريس للنهج الشمولي على الطريقة السوفياتية.

أما عن حزب الوحدة الروسية الحاكم، الذي يتزعمه بوتين، فقد وصفه غورباتشوف بأنه يعيد إلى الأذهان «الحزب الشيوعي السوفياتي» في أسوأ صوره. إلا أن غورباتشوف ورغما عن ذلك أثنى كثيرا على ما فعله بوتين لإنقاذ روسيا من حالة الفوضى والانهيار التي كادت تودي بالبلاد إلى غياهب المجهول إبان حكم يلتسن. ولم يغفل غورباتشوف توجيه الانتقادات أيضا إلى من سماهم بـ«الجورنالجية» من الصحافيين الروس والأجانب بسبب ما وجهوه إليه من اتهامات بالضعف وعدم الحسم وتحميله مسؤولية انفراط عقد الدولة وانهيار الاتحاد السوفياتي. وقال «إنه لو لم يكن هذا الضعيف قد جاء في الزمان والمكان المناسبين لم يكن لأحد أن يتوقع ماذا كان يمكن أن يحدث».

ووفقا لوكالة استطلاعات الرأي، فإن معظم هؤلاء الذين يرغبون في العودة إلى عصر الاتحاد السوفياتي من فلول الحزب الشيوعي وكبار السن والذين يعيشون في مدن وقرى صغيرة. وتجدر الإشارة إلى أن الاستطلاع أجري في يوليو (تموز) وشمل 1,600 شخص بالغ، وكان هامش نسبة الخطأ في أخذ العينات يقدر بـ3 في المائة.

وتشير ردود فعل أخرى إلى أن الروس لا يرغبون في الديمقراطية في العموم، ولكن في ديمقراطية من نوع معين، من خلال حكومة مركزية قوية، حكومة تقترب من تلك الحكومة الموجودة في روسيا الآن، وليس من الشكل الذي تخيله فيريتيلني. وذكر أكثر من نصف من تم استطلاع آرائهم، 53 في المائة، أنهم قد أولوا أهمية أكبر لـ«النظام» من حقوق الإنسان.

«كان لدينا كثير من الأمل وكثير من الثقة في المستقبل»، هذا ما قالته زوجة فيريتيلني، وتدعى سفيتلانا. وأضافت: «كان هناك ذلك الشعور بالحرية والأمل. كنا جميعا غاية في السعادة برؤية تغيير».

ولكن في الوقت الحالي، بحسب وكالة استطلاع الرأي، تنظر نسبة 10 في المائة فقط ممن استطلعت آراؤهم لتلك الأيام باعتبارها انتصارا للديمقراطية. وذكرت أن نسبة الأفراد الذين وصفوا هذه الأحداث بالمأساة وصلت إلى 39 في المائة، بعد أن كانت 25 في المائة في ذكرى الانقلاب منذ 10 سنوات مضت.

وقال فيريتيلني، الذي تحول من حالة الأمل إلى السلبية: «يبقى الوضع على ما هو عليه. يتعين علينا فقط إدراك أن هذا هو ما انتهى بنا الحال إليه».