جيران ثلاثة.. بلا رؤساء

بن علي هرب ومبارك خلف القضبان والقذافي بانتظار الجنائية الدولية

TT

قبل 7 أشهر من الآن، وفي ليلة باردة من ليالي يناير (كانون الثاني)، خرج شاب تونسي يصرخ في أحد شوارع تونس العاصمة صائحا بعلو صوته، بنبرة تغلفها الفرحة: «بن علي هرب.. بن علي هرب»، فسقوط الرئيس التونسي بن علي على خلفية مقتل الشاب البوعزيزي، وما تلاه من مظاهرات، لم يكن متوقعا أبدا بتلك السهولة، وشكل زلزالا سياسيا قويا في منطقة تتجاور فيها 3 نظم رئاسية عتيدة هي مصر وليبيا وتونس. أصداء الزلزال وصلت للقاهرة التي ارتبكت فتلعثمت، ليخرج مسؤولوها الواحد تلو الآخر يرددون العبارة ذاتها: «مصر ليست تونس»، لكن نظام مبارك الرئاسي سقط هو الآخر في غضون 18 يوما فقط تحت ضغط المظاهرات الحاشدة والاعتصامات المتتالية في ميدان التحرير، حينها اهتزت الأرض تحت كرسي الحكم الرئاسي في الجار الثالث، ليبيا، ليخرج العقيد القذافي بنفسه، قائلا بنبرة لا تخلو من غطرسة السلطة: «لست رئيسا لأتنحى».. لكن ذلك لم ينف أبدا حقيقة أن الجيران الثلاثة باتوا جميعا ليلة سقوط القذافي يوم 21 أغسطس (آب) دون رئيس، وبعد 42 عاما من السيطرة على الحكم ومقاليد الأمور في البلاد. لتنضم ليبيا إلى المصير الانتقالي نفسه لجارتيها مصر وتونس في سابقة لم تحدث أن تتهاوى ثلاثة نظم رئاسية متجاورة في غضون 7 أشهر.

في فضائه الفني، يجسد كارلوس لطوف، رسام الكاريكاتير البرازيلي، مأساة الرؤساء الثلاثة، وكأنهم دمى تنزلق على حبل واحد، في مسعى حقيقي لدعم ثورات الشعوب الثلاثة، لافتا إلى أن أحدا لم يكن يتوقع، على الإطلاق، أن النظم الرئاسية العربية الثلاثة في شمال أفريقيا ستتهاوى بتلك السرعة، الواحد تلو الآخر، خاصة أنها أثبتت، عبر عقود طويلة، قوتها ورسوخها وقمعها الشديد لمعارضيها.

لكن منذ الساعة الخامسة عصر الجمعة 14 يناير التي شهدت هروب بن علي وتعلق طائرته في الجو بانتظار مضيف كريم ليتلقفه، تغير كل شيء وباتت تونس ليلتها برئيس جديد هو راشد الغنوشي الذي أعلن توليه للسلطة، وذلك بسبب تعذر ممارسة رئيس البلاد لمهامه الرئاسية، حسب قوله. لكن تونس، التي لم تعرف سوى زين العابدين بن علي رئيسا لـ23 عاما، ما لبثت أن شهدت رئيسها الثاني في يومين بعد أداء رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع اليمين الدستورية كرئيس مؤقت للبلاد بناء على قرار المجلس الدستوري الذي استخدم نص المادة 57 من الدستور وليس المادة 56؛ حيث إن المجلس اعتبر بن علي لا يمكنه القيام بمهامه كليا (المادة 57) وليس مؤقتا (المادة 56) وعزله رسميا عن رئاسة البلاد ليتولى المبزع السلطة، ولكن كرئيس انتقالي في مرحلة انتقالية معلنا الغنوشي رئيسا للوزراء، وهو ما لم يرض التونسيين ليغيره المبزع لاحقا مكلفا باجي قائد السبسي برئاسة الحكومة.

وبدا أن عجلة المرحلة الانتقالية تسير بأقصى سرعتها في تونس، ففي 3 مارس (آذار) تم الإعلان عن انتخاب مجلس تأسيسي لكتابة دستور جديد للبلاد، وبدا أن التونسيين يسابقون الوقت لتأسيس نظام جديد، أجمعت الآراء على أن يكون رئاسيا ولكن بقيود أكبر على سلطات الرئيس حتى لا يتكرر إنتاج رئيس يسيطر على كل شيء ويمنع عن التونسيين حتى الحق في تنفس الهواء كما قال لـ«الشرق الأوسط» ناشط سياسي عبر الهاتف من سوسة.

الأكثر إثارة في ثورة الياسمين التونسية هو السرعة الفائقة في محاكمة رئيسها السابق، الذي صدرت بحقه أحكام متتالية، ففي 20 يونيو (حزيران) حُكم عليه بالسجن 35 سنة وغرامة 45 مليون يورو، وهو الحكم الذي جاء بخصوص قضية الاستيلاء على أموال عمومية ثم في 4 يوليو (تموز) حكم عليه بالسجن 15 عاما ونصف العام، بتهمة حيازة أسلحة ومخدرات وقطع أثرية، ثم في 28 يوليو صدر بحقه حكم غيابي بالسجن 16 عاما بعد إدانته بقضايا فساد واختلاس، كما حكم على ابنته نسرين وصهره صخر الماطري بالسجن 8 أعوام و16 عاما على التوالي في القضية نفسها التي تتعلق «بتمكينهما من قطعة أرض» في حي فخم في العاصمة تونس. ومن المنتظر أن تتواصل محاكمة بن علي غيابيا في قضايا أخرى بلغت 92 قضية رفعت ضده شخصيا، وضد المقربين منه، معظمهم من عائلة زوجته، وهي الأحكام التي علق عليها مراقب سياسي من تونس قائلا: «تلك الأحكام ستشكل الخط الذي سيسير عليه رئيس تونس المقبل». وهو ما تلقفه الرئيس التونسي المؤقت المبزع قائلا: «ما يعنيني دخول تونس مرحلة جديدة أساسها ممارسة الشعب لسيادته كاملة في إطار نظام سياسي جديد يقطع نهائيا وبلا رجعة مع النظام السابق».

وفي مصر، أحد النظم الرئاسية الأكثر رسوخا في العالم العربي، فإن 6 أشهر مرت الآن منذ الإطاحة بحكم الرئيس السابق مبارك، دون أن يخلفه أحد، ولو تحت صفة المؤقت أو حتى الانتقالي، لتبقى مصر تبدل الشهور والأسابيع بمقعد حكم خال من رئيس، بعد أن شغله مبارك 30 عاما، وسعى لتوريثه لابنه جمال.

ما يختلف في المشهد السياسي في مصر عن تونس، هو التكالب الكبير من السياسيين وغير المنشغلين بالسياسة نحو المنصب الأثير الذي شغله 4 فقط في مصر الجمهورية، وإن اتفقوا على الخوف من سيطرة الإسلاميين على صياغة الدستور الذي سيحدد شكل الدولة والحياة لعقود طويلة.

وعلى الرغم من وضع المجلس العسكري الحاكم في مصر لبنات الطريق نحو تسليم السلطة لحكومة منتخبة بطريقة ديمقراطية فإن الجميع في مصر المحروسة لا يزال في حرب فكرية ضروس حول الانتخابات والدستور والمرجعية الإسلامية والدولة الدينية، وهي أشياء تخبو كثيرا وراء الضجة الإعلامية التي تصاحب كل طلة للرئيس السابق من خلف قضبانه حيث يحاكم في أكاديمية الشرطة بالقاهرة بتهمة قتل المتظاهرين، لكن نفرا من أنصاره لا يزالون يدافعون عنه حيث يقول حازم حكيم، 24 عاما، لـ«الشرق الأوسط»: «مبارك لم يهرب كبن علي ولم يحارب شعبه كالقذافي».

فالجارة الثالثة، ليبيا، التي بدا في عام 1969 أنها تحررت من فساد حكم الملك السنوسي، وقعت لعقود تحت أسر الحكم الرئاسي ثم الشعبي للعقيد معمر القذافي، الضابط ذي الـ24 عاما الذي استولى على الحكم صبيحة 1 سبتمبر (أيلول) قبل 42 عاما، وهي المدة التي شكلت سنوات حكمه المجنونة لبلد تفرق معارضوه في بقاع الأرض، ولم يشهد حياة سياسية سليمة، فحكم بكتاب أخضر وليس دستورا، وبمجالس شعبية وليس برلمانا منتخبا، مما راكم الغضب في نفوس أحفاد عمر المختار.

وعبر 6 أشهر بالتمام والكمال استخدم القذافي كل الأدوات المباحة والمحظورة لقمع ثورة شعبه التي انطلقت شرارتها ظهيرة 17 فبراير (شباط) في بنغازي، لتثمر عن توحد الليبيين خلف المجلس الانتقالي الذي تشكل من رجال قانون وسياسيين تركوا القذافي خلف ظهورهم وانطلقوا ليحرروا ليبيا مدينة مدينة تخت غطاء مادي عربي، وعسكري من حلف الناتو، حتى وصلت قوات الثوار إلى طرابلس التي سقطت دون مقاومة تذكر، ليتساقط أبناء القذافي الواحد تلو الآخر وتمضي ليبيا هي الأخرى دون رئيس كشقيقتيها تونس ومصر، ويتحول القذافي من ملك ملوك أفريقيا لمجرد مجرم مطلوب للعدالة أمام المحكمة الجنائية الدولية.