مختار الأخضر.. نموذج لمقاتلي الثورة الليبية

قال أنه لم يكن لديه خيار آخر سوى القتال

ثوار ليبيون يحتفلون قرب ملعب للغولف تابع للقذافي عند مدخل باب العزيزية (رويترز)
TT

داخل ليبيا المختلة التي تعيش واقعا لا يمكن تصوره تحت حكم القائد معمر القذافي، الذي يبدو مصابا بمس من الجنون، لم تفرز الانتفاضة الليبية التي هزت العالم العربي بأسره ثورة واحدة، بل أفرزت ثورتين منفصلتين.

كانت إحداهما ثورة بسلاح الكلمات، من قبل الشباب المدنيين، على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» وفي الشوارع، انتفاضة المجالس الانتقالية والرسائل على موقع «تويتر»، التي تمثلت ساحة المعركة فيها في عاصمة الثوار بنغازي، والتي تصدى لها البيروقراطيون الذين يعدون بإرساء الديمقراطية.

أما الثورة الثانية فكانت أكثر بساطة، ولكن أكثر نقاء في الوقت نفسه: ثورة المتمردين المسلحين على مدى الأشهر الستة الماضية، داخل بساتين الزيتون والمدن المهجورة (مدن الأشباح)، الذين تم دفعهم إلى التقدم للأمام من قبل سكان الجبل الأقوياء الوحشيين أمثال مختار الأخضر، قائد من الجبال الغربية اندفع رجاله المسلحون قويو البنية نحو العاصمة طرابلس في نهاية الأسبوع، وبدوا على وشك الإطاحة بالقذافي.

«علمنا منذ البداية أن ثورتنا ستكلفنا حياتنا. لم نكن خائفين، لكننا أدركنا هذا. أيقنا أننا لا يمكننا محاربة الدبابات بالورود». هكذا تحدث الأخضر قبيل بضعة أيام من آخر تقدم للثوار صوب طرابلس. المظاهرات لن تأتي بالتغيير، كان هذا تفكير الأطراف الخارجية، كالأميركيين والأوروبيين والمغتربين، على حد قوله. وأضاف: «ليس في ليبيا. ليس مع القذافي. لقد كنا معا طوال 42 عاما. لا توجد أي ورود».

إنّ ما يحرك رجالا أمثال مختار الأخضر، وما يتوقعه من ثورته، ربما يشكل ليبيا الجديدة، تماما مثلما يكتب المتفاوضون الآن المسودات الأولى لدستور جديد للبلاد. الأخضر يمثل أهمية لأنه قد عانى، ولديه أحلام، وهو مسلح بأسلحة ثقيلة.

يعتقد أن الأخضر على قيد الحياة وموجود في طرابلس. وكانت المرة الأولى التي شاهده فيها المراسلون منذ 10 أيام مضت. وفي وقت أقرب أرسل أشخاص مقربون منه رسالة عبر البريد الإلكتروني يقولون فيها إنه شوهد في العاصمة بصحبة رجاله.

يحمل معظم المقاتلين الثوار الذين تدفقوا على طرابلس أسلحة «إيه كي 47» بالية، مدافع كلاشنيكوف عتيقة الطراز مع جذوع خشبية مصقولة. لكن على السهول الواقعة جنوب طرابلس، ثبت مختار الأخضر بنادق هجومية «إف إن»، السلاح المفضل لقوات القذافي الخاصة.

من أين أتى بهذا السلاح؟ «ميت»، رد الأخضر. وقال إن الضابط التابع للحكومة الذي كان يحمل هذا السلاح لقي حتفه على أيدي الثوار، «والآخرون لاذوا بالفرار. لقد لقي ضربة مميتة».

لم يبتسم القائد البالغ 54 عاما والأب لستة أبناء، الذي يبدو رجلا من فولاذ، لذكرى قتال ليبيين لليبيين. وأشار الأخضر، الذي لا يتحدث سوى بضع كلمات قليلة بالإنجليزية، إلى عدوه الصريع قائلا: «فتى شجاع جدا». بعدها رفع يديه، كما لو كانوا غرباء، وقال: «دم. يداه ملطختان بالدماء».

يتمثل مركز قيادة الأخضر في شاحنة نقل مدهونة بطين لزج للتمويه ومتدل من قربة مصنوعة من جلد الماعز. والسرير به ثقوب من جراء طلقات رصاص. شخص ما ترك قنبلة يدوية ترتد إلى المقعد الأمامي.

ويقسم سكان ليبيون أن القوات الموالية للقذافي أطلقت 3000 صاروخ غراد داخل وخارج زنتان، ما زالت متناثرة مع بقايا الدبابات روسية وصينية الصنع التي تدمرت بفعل القذائف الموجهة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقنابل البنزين محلية الصنع. ومن بين جميع مدن جبال نفوسة، يعرف سكان زنتان بثباتهم وعزمهم وتكبرهم وذكائهم، وهي المدينة التي أفرزت معظم الشهداء. وهناك أكثر من 125 لوحة لهم معلقة في الميدان بالمدينة.

كان الأخضر من أوائل من أمسكوا مدفعا. وعلى مدار 25 عاما عمل الأخضر كضابط برتبة متدنية في الجيش الليبي، إلى أن تم تسريحه في عام 1998. تعلم تكتيكات الأسلحة الخفيفة وكيفية إطلاق قذائف الهاون وأهمية التقدم على الأعداء. ولم يخاطر على الإطلاق بالقتال بعيدا عن ليبيا، إلا في الحدود الصحراوية للجزائر وتونس وتشاد. ولكنه جمع معلوماته التاريخية، على حد قوله، من مشاهدة القنوات الفضائية.

حارب في تشاد، صراع حدودي دام لمدة عقد، ذلك الصراع الذي تأرجح ما بين نصب الكمائن والترصد والتراجع في الواحات والأودية في الجنوب، حيث انهار الجيش الليبي ولم يتعافَ بعدها على الإطلاق. وتخيم أشباح تلك الحرب - أشبه بحرب فيتنام بالنسبة لليبيا - على ثورة 2011 على نحو يفوق ما يمكن أن يفهمه السواد الأعظم من الأطراف الخارجية. ويقول الأخضر إنه استشعر صمتا مريرا حينما حط القذافي من قدر جيشه، الذي دائما ما كان محترسا من منافسيه في الرتب العسكرية.

«أمرونا بأن نقاتل. وقاتلنا. لكن القذافي لم يحترمنا مطلقا ولم يمنحنا رواتب مُرضية، فقط حرب بلا مبرر، مستمرة دون توقف، تعد بمثابة مسرح لأعماله الإرهابية الإجرامية»، قال الأخضر. سقط أكثر من 7500 جندي ليبي، عُشر الرجال المسلحين والمتخذين أهبة الاستعداد للقتال في ذلك الوقت.

يقول الأخضر إنه التقى القذافي مرة واحدة، في 1975، في نقطة تفتيش في الزاوية، حينما كان في وردية حراسة. حينها أعجب بالعقيد الليبي الشاب المقدام الذي أطاح بالملك إدريس السنوسي في انقلاب عسكري عام 1969. آمن الأخضر الشاب بالثورة. يقول: «في البداية، تولى القذافي السلطة في سلام، ولكن ثبت بعدها أنه لا يختلف عن جميع الحكام المستبدين الآخرين. الآن، تحجر قلبه، ولم يعد يعشق إلا السلطة».

ومع زيادة حدة الانتفاضة ضد القذافي دأب على الإشارة إلى الثوار بالإسلاميين المتطرفين أو الإرهابيين التابعين لتنظيم القاعدة أو بالجرذان. «لكنه جرذنا»، هكذا قال الأخضر. وأضاف: «لم يتخيل قط في حياته أنه سينتهي به الحال إلى الاختباء في جحر في طرابلس. لكننا نعرف الجرذان. سنصيده في جحره وسنقتله، كأي جرذ». وبعد تسريحه من الجيش عمل الأخضر مرشدا يقود السياح الإيطاليين والفرنسيين في رحلاتهم التي تمتد لأسابيع عبر البحار الرملية العظيمة جنوب زنتان. وهو يتوق إلى الصحراء دوما ويرى أنها لقنته دروسا في التفاني والإخلاص والتواضع والتحمل. واختير الأخضر من قبل رجاله لقيادة ميلشيا شهداء زنتان، مجموعة تضم 300 أو 400 مقاتل، اعتمادا على اليوم الذي يطلبون فيه، مع وجود نحو 60 مقاتلا جسورا ممن يتقدمون إلى الصفوف الأمامية بناء على أوامر الأخضر.

وتتخذ كتيبته من مدرسة مهجورة مركزا لها. ويقول الأخضر بنغمة تنم عن شعور بالخزي: «انظر إلى ما فعلنا. لقد كان هذا مكانا لتجمع الطلبة، بينما تفوح منه رائحة الرجال والحرب الآن ورائحة منبعثة من دورات مياه قذرة وزيت الأسلحة والنفايات المحترقة والأقدام غير النظيفة». وقال الأخضر إنه ألقى بنفسه في أحضان الثورة لأنه لم يكن لديه خيار، فقد كان يتم إطلاق النار على المواطنين الليبيين المشاركين في الاحتجاجات. ظهرت أكثر أخطاء القذافي فداحة بين القبائل المسيطرة على الجبل. لقد أشعل القذافي الثورة. وأوضح قائلا: «عرض رجاله المال على القبائل حتى يعودوا، وعندما لم نفعل دخلوا بدباباتهم ودافعنا عن أنفسنا. ومع بداية القتال رأينا أنهم لم يكونوا أقوياء. لقد كانوا ضعفاء، لذا بدأنا قتلهم وهربوا». ظل الثوار لأسابيع خلال الصيف الحالي في بلدة منسية تسمى القوالش تقع على قمة تل مهجور يطل على وادٍ ضيّق ومن مسافة بعيدة تلوح بلدة يسيطر عليها القذافي هي الأصابح.

لقد سيطروا على القوالش ثم خسروها ثم استعادوا سيطرتهم عليها. في فترة ما بعد ظهيرة أحد الأيام كانت هناك مجموعة من الأشخاص العزّل يركبون سيارات وشاحنات وهو يلوحون بأعلام خضراء. ثم وجدوا أنفسهم أمام كمين، حيث قفزت قوات موالية للقذافي من سيارات أخرى واحتشدوا على التلال.

دخل رجال الأخضر في معركة بالنيران مع الموالين للقذافي الذين أصبحوا حاليا وحدات تجمع بين أفراد جيش نظامي وواضعي ذخيرة في المدافع ومرتزقة من مالي والنيجر.

وانتهى الأمر في أقل من 30 دقيقة، وانسحبت قوات القذافي حاملة معها جنودها القتلى، بينما أصيب في صفوف الثوار أربعة. وقال الأخضر في ما بعد: «نحن أبناء الصحراء، لن نخدع بهذه الطريقة. إذا كان لدى القذافي ثلاثة أفكار، فنحن لدينا عشرة». توقع الأخضر أن تسقط طرابلس في أيدي الثوار قبل نهاية شهر رمضان المعظم الموافق نهاية شهر أغسطس (آب). في ساعات المساء أفطر الأخضر في منزل على أطراف محبوبته الصحراء. وكان هناك فصيل مربوطة إحدى رجليه بعمود استعدادا لذبحه. كان أحد الثوار يتباهى بإمساك ثعبان سام «بزرادية» ولا يزال على قيد الحياة. يسترخي الأخضر ويتناول الفستق الحلبي، بينما توجد إزاء الحائط أسلحة كلاشنيكوف وآر بي جيه وبنادق إيطالية. شبع جنوده وبدأوا يدخنون وهم يحلمون في وقت الغسق. كذلك كانوا يستمتعون بشيء جديد، حيث يعبرون بحرية عن شكواهم من الحياة التي حرموا منها، فهم يريدون أن يكون لديهم مال ويتزوجوا ويسافروا. إنهم يشاهدون قناة «ليبيا الحرة» الفضائية الجديدة التي تعرض مقاطع مصورة للثوار وتعرض صورا لهم وهو يضحك مقطوعة بصور منقولة عن تلفزيون الدولة عام 1984 عندما شنق الأخ القائد معارضين له في الاستاد. يقول الأخضر بهدوء وهو يشاهد رجاله: «كلما طال أمد الحرب كان الأمر أسوأ. إن الحروب تصنع مجرمين. لقد درست ذلك». ويشير إلى الصومال وفيتنام ورواندا وصربيا. وأضاف: «لا نريد أن نصبح كذلك». وسُئل الأخضر في أكثر من مقابلة كان يراها الأخضر تافهة أو مملة أو كليهما عما يريده من الثورة. ولم يتغير جوابه في كل مرة وهو: «أريد الحرية. اكتبها مرة أخرى. الحرية».

* خدمة: «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»