طرابلس.. متاهة القذافي

ساعدت الثوار على تشتيت كتائب العقيد

TT

حين يتحرك الثوار بأسلحتهم في العاصمة الليبية طرابلس فإن الأمر ليس بتلك السهولة، خصوصا بالنسبة للمقاتلين القادمين من المدن البعيدة حيث يدخل بعضهم هذه العاصمة للمرة الأولى في حياته.

وحتى لو كانت بقية شوارعها مخيفة، فإنه معروف أن أي عاصمة دولة لا بد أن يوجد بها مقر معلوم للكافة لمبنى وزارة خارجيتها، ما عدا العاصمة الليبية طرابلس.

في يوم من الأيام، على كورنيش العاصمة برماله الصفراء، توقف التاكسي، وأجاب عن السؤال بالآتي: «أنت تريد أن تذهب إلى مبنى وزارة الخارجية، لكن أيها تريد؟ المبنى القديم أم المبنى الجديد أم المبنى الذي يعمل؟»، وهذه طريقة صعبة في تحديد الأماكن والوصول إليها.

كان من المزح التي تجدها هناك، حين تشكو من التناقض البيِّن بين سعة طرابلس وضيقها في الوقت نفسه أن يقول لك البعض إن هذه «طريقة القذافي».. أن يكون هناك عدم يقين رغم أنك قد تعتقد أن هذا هو اليقين نفسه.

حتى سكان طرابلس أنفسهم وشبانها الذين انتفضوا في وجه القذافي أدركوا طبيعة مدينتهم المعقدة حين اضطروا إلى التحرك بأسلحتهم من زنقة إلى زنقة لمحاصرة مجموعة الكتائب المخيفة التي كانت ترابط عند الجدران الزرقاء الخلفية لمبنى سوق الجمعة المستحدث. يقول البعض إن السبب يرجع لاختلاط المناطق والمباني والشوارع والدروب الأثرية.. اختلط كل ذلك بما تم استحداثه في النصف الثاني من القرن الماضي من مبانٍ وطرقات تم افتتاحها عنوة على أنقاض بيوت ومرافق.

اتجه يمينا من شارع عمر المختار، واعبر من أمام المبنى الأولمبي.. من هنا يمكن أن تترجل لمدة دقيقتين لتجد نفسك على شاطئ البحر.. أما إذا اعتقدت أنك ذكي وأنك ستأخذ الشارع الموازي لتصل إلى نفس الشاطئ، فهذا هو الخطأ بعينه، لأنك إما ستجد نفسك في قلب الضاحية القبلية بدروبها الضيقة ومجاريها العطنة، وإما ستجد نادي العاصمة الرياضي أمامك، في شارع عمر المختار نفسه.

رغم أن المدينة التي تقف على أرض مرتفعة قليلا عن البحر ذات حجم كبير يعيش فيها وفي ضواحيها المترامية نحو مليوني ليبي ومليون مهاجر على الأقل، فإنها ليست بتلك المساحة الضخمة التي تجعل زائرها يتوه فيها. لكن يمكن أن تتسبب فقط في إصابته بالدوار، حتى لو سلك الطريق المستقيم الواصل بين المطار ومجمع القذافي السابق في باب العزيزية. وتبلغ مساحة المدينة نحو 400 كلم مربع دون حساب مساحة الضواحي الجديدة المنتشرة على الأطراف، ويزيد طولها المحاذي للبحر المتوسط على عرضها الداخل في الصحراء.

طرابلس يدوخ فيها الغريب، أما إذا كان من كتائب القذافي أو حلفائه فيمكن أن يصل من المطار الدولي الذي يقع جنوبا على بعد نحو 25 كيلومترا، إلى قلب المدينة من عدة طرق، مرورا بقصر بن غشير. كبار الزوار لهم طريق واسع إلى خيمة القذافي حين كانت قائمة، وهو طريق مكشوف كان من السهل لحلف الناتو أن يقصف أي قوات تتحرك للقذافي من هناك.. وطريق شبه دائري يلتف إلى اليمين قبل أن يسقط بك إلى وسط العاصمة.. وهذا استخدمه المسلحون القادمون من الجنوب في الالتفاف لتأمين وصول زملائهم إلى معقل القذافي.

أما الطريق الخطر فهو ذلك الذي يمر في زاوية حادة ويخترق الكثير من الضواحي السكنية وصولا إلى فندق «ريكسوس» الذي حاز شهرة بوجود المراسلين الأجانب فيه. وتشتهر المباني الفقيرة على جانبي الطريق بعدم ولائها للسلطة. لكن أحد السكان من قبيلة المقارحة التي ينتمي إليها صديق القذافي المنشق عنه، عبد السلام جلود، يعلق عبر الهاتف بقوله: «لا تعرف الآن إذا كان الولاء على جانبي هذا الطريق للثوار أم للقذافي.. أعتقد أن إطلاق النار الذي نسمعه بين حين وآخر لا علاقة له بالسياسة، بل بتوزيع غنائم من فوضى الأمس».

تركيبة المدينة تجعلها أيضا قادرة على حماية الإخوة الأعداء من وصول بعضهم إلى بعض بسهولة. ويعتقد أن القذافي ما زال يحتفظ بقوات قرب المطار الذي سيطر عليه الثوار، وتبلغ مساحته نحو ألفي فدان، وهي مساحة ضخمة يصعب معها مراقبة من يمكن أن يأتي إليه بآلياته من طريق سوق الجمعة في أقصى يمين العاصمة من الناحية الشرقية، أو من ضاحية زاوية الدهماني وشهداء الشط والنوفليين وغيرها من ضواحٍ وتجمعات سكنية.

تقول مصادر الثوار إن من يسيطر على سوق الجمعة يسيطر على طرابلس وثكناتها، وإن العاصمة التي تشبه متاهة القذافي ساعدت الثوار على تشتيت كتائبه الأمنية. ومنطقة سوق الجمعة في طرابلس تشبه الجذع من جسم الرجل، إذا ملكته هزمت صاحبه. تخترق ضاحية السوق طرقا رئيسية تؤدي إلى كل أرجاء طرابلس.. ويتفرع منها جسور تلقي بك على الطريق الساحلي الذي جاء منه ثوار مصراتة، وتلقي بك إلى مدخل شارع 11 يونيو المجهز لتحصن أي عدد من المسلحين فيه بسبب كثرة ما يطل عليه من محال ضخمة لبيع كل شيء من أول أدوات البناء إلى سيارات الدفع الرباعي.

وتعد ضاحية تاجوراء الواقعة شرق المدينة من أكبر ضواحي طرابلس قرب سوق الجمعة، ومن هنا، من زحام السوق وبالقرب من شارع 11 يونيو، وبعد يومين أو ثلاثة من الاختباء كما فعل عدد من ثوار طرابلس، يمكن الانطلاق عبر معبر عرادة إلى عدة طرق دائرية تلف العاصمة كلها، ويمكن بسهولة الوصول إلى ضواحي فشلوم (التي قدمت أكثر من عشرة شهداء طوال أيام الثورة) أو الميناء البحري أو باب العزيزية أو باب بن غشير أو فندق «ريكسوس» أو المطار الدولي وهكذا حتى الوصول إلى مبنى التلفزيون الحكومي الموجود في منطقة مزدحمة بغرب العاصمة.. لكن كل ذلك يحتاج إلى دربة وصبر وخبرة بدهاليز مدينة جعلها القذافي أشبه ببيت جُحا.