إمام جامع أطلق سراحه الثوار من سجون القذافي يحث على العفو رغم القمع الوحشي

ليبيون: الثأر سيكون «المشكلة الكبرى».. والعفو لن يكون هينا

TT

على غرار الكثير من الليبيين، لدى الشيخ عبد الغني أبو غريس مبرر للشعور بالأسى المرير تجاه أنصار العقيد معمر القذافي؛ حيث أم المصلين لأول مرة في صلاة الجمعة منذ أن زحف الثوار إلى مدينة طرابلس.

وحينما اندلعت الانتفاضة في طرابلس قبل 6 أشهر، ساعد الشيخ في إشعالها من خلال خطبة ملتهبة في صلاة الجمعة بجامع مراد أغا؛ فكلماته الحماسية دفعت عشرات من المتظاهرين إلى الاحتشاد في الشوارع. ومنذ الأيام الأولى للانتفاضة، بات مسجده وحيه مركزا للثورة والمقاومة، وعلى مدار 6 أشهر، تعرض هذا الموقع لقمع وحشي، والذي، بحسب سكان، سقط جراءه عشرات القتلى وتم اعتقال المئات من بينهم الشيخ عبد الغني أبو غريس.

لكن في يوم الجمعة، بعد 5 أيام من اختراق الثوار بوابات السجن لإطلاق سراحه، شاهد الشيخ أبو غريس مجموعات من آلاف الشباب يجوبون الشوارع في سيارات «بيك أب» وهم يلوحون بمدافع كلاشنيكوف، وقرر أن يوجه رسالة غير متوقعة. قال: «كانت الرسالة هي أن نصفح. أن يعفو كل منا عن الآخر وأن نترك الأمر للقانون ولا ننتقم من بعضنا البعض».

ومع احتشاد الجموع بمختلف أنحاء المدينة واستمرار القتال، فإن كثيرين لا ينوون الالتفات إلى نصيحته. وعند مدفن بالقرب من تاجوراء؛ حيث لم يكن العقيد القذافي قد قام منذ وقت طويل بدفن توابيت فارغة لاتهام حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقتل المدنيين، بدأ حفارو القبور يصبون اللعنات لدى رؤيتهم جثث 4 رجال قالوا إنهم من جنود القذافي. كانوا مرتزقة، على حد قول الحفارين، غير أنهم لم يقدموا أي دليل يثبت ذلك، وقالوا إنه تم العثور عليهم بالقرب من مقر القذافي. بعدها، تم إجراء طقوس الدفن وفق تقاليد الشريعة الإسلامية ودفنوا في قبر واحد. وذكرت تقارير جديدة أن هناك دليلا على أنه قد تم إعدام مجموعة واحدة على الأقل من أنصار القذافي.

«الثأر هو المشكلة الكبرى».. هكذا تحدث سعيد ناشي (18 عاما)، الذي أتى إلى المقبرة لدفن قريب له قتل جراء إصابة بقذيفة آر بي جي. وأضاف: «إذا كان لدى أي شخص مشكلة معك في الماضي، ربما يقتلك الآن». وقارن العاصمة بالمدن الأصغر التي أصبحت خاضعة لقبضة الثوار، قائلا: «طرابلس ليست كبنغازي أو مصراتة؛ حيث يعرف الناس بعضهم بعضا. إنها مدينة تعداد سكانها 3 ملايين نسمة».

وعلى الرغم من ذلك، فقد أكد آخرون أثناء مغادرتهم مسجد تاجوراء أنهم قبلوا نصيحة الشيخ، حتى وهم يسردون تفاصيل أعمال القمع الوحشية التي لم يتحملها سوى قليل من الرجال الشجعان قبل 6 أشهر.

كان الشيخ أبو غريس معارضا للعقيد القذافي منذ سنوات، جزئيا بسبب قمعه الخانق لحرية التعبير الدينية؛ فقد دأب القذافي على إرسال قوات من البوليس السري – أو حتى من الحراس المسلحين – إلى المساجد كل جمعة لمراقبة خطبة الإمام تحسبا لأي إشارات تنم عن معارضة لنظام القذافي. وفي بعض الأحيان، كانت الحكومة توزع الخطب المفترض أن يلقيها أئمة المساجد.

وبحلول يوم 24 فبراير (شباط)، كانت بنغازي قد بدأت تعج بأعلام الثوار مثلثة الألوان، ومزق المشاغبون الليليون صور القذافي بالطرف الشمالي من طرابلس. وفي تلك الأيام الأولى من الانتفاضة الشعبية، حينما كان العقيد القذافي ما زال يتمتع بقوته وسطوته، شاهد الشيخ أبو غريس (56 عاما)، وهو رجل ضعيف يرتدي نظارة لها إطار معدني، رجال أمن تابعين للحكومة الليبية في مسجده، غير أنه لم يهتز وحث المصلين على المشاركة في الثورة الشعبية، من خلال تنظيم مسيرة إلى طرابلس للتظاهر السلمي.

«شجاعة كبيرة».. هكذا قال أخو الشيخ، الذي يدعى عبد الكريم والبالغ من العمر 48 عاما.

بعدها، تدفق الآلاف من المسجد، وانضموا إلى عدد هائل من المواطنين الآخرين في حي سوق الجمعة المتاخم للمسجد. وسرعان ما قوضت تلك الحماسة، فقد كان هناك كمين منصوب لهم، وبدأت القوات الحكومية في إطلاق الذخيرة الحية على الجموع، مما أودى بحياة 20 شخصا على الأقل، حسبما أفاد شهود عيان.

وقال بعض من كانوا في المسجد، متحدثين بصراحة للمرة الأولى عن الأحداث التي وقعت في ذلك الأسبوع، إنهم شاهدوا سقوط المزيد من القتلى والجرحى. وبعد بضعة أيام، عرض طبيب، كان موجودا في موقع الأحداث، خلسة على أحد الصحافيين الزائرين 6 صور تم التقاطها في غرفة للحالات الطارئة في تاجوراء. وجميعها كانت صورا لمرضى قُتلوا جراء إصابات بجروح من رصاصة واحدة في الرأس أو الرقبة أو الصدر، مما يشير إلى وجود قناصة مدربين.

وبعد تفرق المتظاهرين في ذلك اليوم، توقع الشيخ أبو غريس أن يأتيه رجال البوليس السري، لكنهم لم يأتوا، لكن، على حد قول سكان الحي، قام البوليس باعتقال كل الشباب في الحي ممن يشتبه في كونهم نشطاء سياسيين، بقض مضاجعهم وجذبهم إلى الشوارع في منتصف الليل. وأشار الكثير من السكان إلى أنه تم اعتقال أكثر من 600 شاب. وتم تهديد أسرهم بأنه إذا تظاهروا مجددا، فلن يرجع المحتجزون مرة أخرى.

«إنه قائد، وكانوا يخشون من حدوث ثورة» قال أخو الشيخ. «لذلك، بعد أن جمعوا كل النشطاء الشباب بوقت قصير، أتوا إليه».

حدث هذا في النهاية في 30 مارس (آذار). وفي ذلك الوقت، كانت شوارع تاجوراء ممتلئة بسيارات بيك أب ماركة «تويوتا» بـ4 أبواب لميليشيات تابعة للحكومة.

كان القانون الجنائي في ليبيا في عهد القذافي متقلبا، لكن أسرة الشيخ قامت بالتعاقد مع محامٍ. ومما أسعدهم أن أحد القضاة وقع خطابا يأمر فيه بإطلاق سراح الشيخ أبو غريس في يوليو (تموز)، وخرج من البوابة الأولى من محبسه. وبمجرد وصوله إلى البوابة الثانية، تم احتجازه مجددا، حسبما قال، من قبل مجموعة أخرى من الضباط. وقاموا بتعصيب عينيه لاقتياده إلى سجن آخر. «قالوا إنهم سيأخذونني لمدة ساعتين، لكنها كانت 45 يوما». وأخبرت السلطات الليبية أسرته بأنها لا تعرف مكانه. وقال الشيخ أبو غريس إنه في كلا السجنين كان بإمكانه سماع صوت صرخات ضحايا التعذيب في كل ساعة عبر أسوار زنزانته. وقال: «كان التعذيب يتم اعتباطا. فكلما شعروا برغبتهم في التعذيب، بدأوا في تعذيب أحد المحتجزين».

وفي الساعات المبكرة من صباح الأحد، تمكن المعتقلون الهاربون من سجن مجاور من إنقاذ الشيخ أبو غريس ومن حوله أيضا. وقد حاول تفادي طلقات النار في الشوارع حتى وصل إلى شخص تربطه به قرابة بعيدة قام بإيوائه. وبعد يومين، باتت الشوارع خالية على النحو الذي مكن أحد أبنائه من القدوم لاستعادته.

وقال الشيخ إنه يخشى الآن من أن يسعى ضحايا آخرون لقوات الأمن التابعة للقذافي إلى الانتقام من جلاديهم. ومجددا، توجهت حشود من آلاف المصلين إلى الصلاة مع الشيخ أبو غريس بعد إطلاق سراحه وسراحهم بالمثل. «نشم نسائم الحرية اليوم، وآمل أن يتحقق الأمر نفسه لجميع الدول العربية».. هكذا قال عبد الغني شريف (45 عاما) عند خروجه من السجن، لكنه اعترف بأن العفو لن يكون أمرا هينا. قال: «لقد دفعنا ثمنا غاليا».

* خدمة «نيويورك تايمز»