حرب الشعارات تنطلق على الجدران.. بين «بخاخي» الثورة والنظام

العبارات الأكثر تكرارا للثوار السوريين: «ارحل يا بشار».. والشبيحة ورجال الأمن يردون «ربكم بشار»

تشهد الجدران في سوريا حرب شعارات بين انصار الرئيس السوري بشار الاسد ومناوئيه
TT

حدثت جلبة كبيرة في المدرسة، عندما تم اقتياد إحدى الطالبات في الصف الحادي عشر من قاعة الدرس إلى غرفة الإدارة ليتم اعتقالها من قبل رجال الأمن، كان للحدث وقع الفضيحة بما صاحبه من شائعات وتقولات انتشرت بسرعة البرق همسا، لم يجرؤ أحد على الكلام والسؤال العلني، حتى الإدارة تكتمت على أسباب اعتقال الطالبة، ليعلم لاحقا وأيضا همسا أن الطالبة المشتبه بها، وراء كتابة بالطبشور (حوار) وجدت على باب دورة المياه من جهة الداخل المخصصة للمدرسين هي عبارات مناهضة لنظام الرئيس حافظ الأسد ومؤيدة للنظام العراقي.

حصل هذا أواخر الثمانينات ولا تزال تتذكر أمل تلك الحادثة، فالطالبة التي اعتقلت كانت صديقتها المقربة، وتعلم كل تفاصيل حياتها، وفوجئت بتوجيه اتهام سياسي لها، لأن جل اهتمامها كان متابعة أخبار الفنانين والموضة في مجلات المنوعات حينذاك. بعد الحادثة منعت أمل من السؤال عن صديقتها التي سيفرج عنها بعد عدة سنوات، فقدت خلالها مستقبلها الدراسي وتحولت إلى شخص منبوذ اجتماعيا، حتى أهلها قلة من الجيران حافظوا على التواصل معهم.

أمل التي تعد اليوم من أشد المؤيدين للثورة السورية تعيش في بلد عربي وتتابع أخبار بلادها بكثير من الألم تقول لـ«الشرق الأوسط» كان بإمكان مستخدم المدرسة الذي اكتشف العبارة «محوها بكفه وأن يجنب صديقتي كل تلك المآسي»، لكن في ذلك الوقت كان «كل مواطن سوري مخبرا للأمن حتى يثبت العكس».

تتذكر أمل تلك الحادثة التي غيرت مجرى حياة صديقتها وتقول «المفارقة أن كتابة على جدران المدرسة من الخارج وبالدهان البخاخ غير مجرى تاريخ سوريا»، في إشارة إلى الكتابة على جدران المدرسة في درعا «الشعب يريد إسقاط النظام» و«اجاك الدور يا دكتور» واعتقل على خلفيتها أطفال صغار وكان تعرضهم للتعذيب الوحشي شرارة الثورة السورية.

وتؤكد أمل أن «كل شعار يكتب اليوم على الجدران في الشوارع السورية هو رد اعتبار لصديقتي التي حرمت من لقائها والسؤال عنها بل رد اعتبار لكل سوري قطع لسانه ليكون شاهدا أخرس على فظائع الديكتاتورية التي حكمتنا».

لهذا يرى فداء، ناشط من تلكلخ، أن «كل ما يكتبه الإعلام عما يجري في سوريا سيبقى ناقصا ما لم ترصد كاميرا الإعلام الساحات والشوارع التي تشهد مظاهرات، قبل وبعد اقتحام الجيش والأمن»، ويضيف فداء على صفحته في موقع «فيس بوك» «الجدران التي يصفها المثل الشعبي بألواح المجانين غيرتها الثورة وباتت مدونة أو صحفا نقرأ فيها توجهات وآراء ومواقف الشارع وأيضا الردود عليها».

يلاحظ مراقبون أن أول شيء يفعله الجيش لدى اقتحامه لأي مدينة احتلال الساحات وإغلاقها، والمسارعة إلى طمس الكتابات الموجودة على الجدران، واستبدالها بشعارات مناقضة. ويشير المراقبون إلى أن الإعلاميين الذين ذهبوا في الرحلات التي نظمتها السلطات إلى بعض المناطق مثل جسر الشغور وحماه ودير الزور لم يسمح لكاميرات الإعلام بالوصول إلى الساحات التي كانت تشهد مظاهرات واعتصامات، بل كانوا يأخذون إلى أحياء نظيفة وهادئة ولا أثر فيها لأي دليل يشير إلى وجود محتجين فيها.

لكن الزائر لتلك المدن سيدهش من كم الكتابات التي تملأ الساحات والتي تبدأ بشعارات «الشعب يريد إسقاط النظام» ولا تنتهي عند حد توجيه أقذع الشتائم لرموز النظام ومطالبتهم بالرحيل، مع استخدام عبارات ساخرة ورسوم كاريكاتيرية، والتي تتناثر متباعدة على امتداد الجدران في الشوارع الرئيسية لتتكثف في الساحات، مشكلة لوحة سريالية من كلمات منها ما كتب على عجل ومنها ما رسم بتأن وإتقان، تمتد لترسم على الإسفلت وكل موجودات الشارع من حاويات قمامة وأعمدة مصابيح الكهرباء ولوحات الإعلان التجارية، وفي بعض يكتب على الحاويات «رحم فلانة» وفلانة تكون أم أحد رموز النظام، أو منزل فلان وهكذا.

إلا أن العبارة الأكثر تكرارا أو تأكيدا «ارحل يا بشار» وتتبع العبارة بصفات مشينة أو برسائل واضحة المعاني «ما منحبك ما منحبك ارحل عنا أنت وحزبك» أو تحوير اسم الرئيس بشار إلى بشارون على وزن شارون، وكلام آخر يتهم النظام بالكفر والإلحاد، ويدين الإجرام والقتل.

ومنذ انطلقت الثورة في سوريا كان هناك مجموعات من الشباب على موقع «فيس بوك» سموا أنفسهم بالبخاخين أي الذين يقومون ببخ الشعارات على الجدران، وكانت البداية مع دعوات إلى بخ عبارات واحدة في وقت واحد في مناطق متفرقة من البلاد. لبعث رسالة للسلطة بأن هناك شرائح واسعة في كل البلاد تناهضه، كما ظهر كثر يستخدمون أسماء مستعارة لناشطين مشتقة من هذه التسمية مثل البخاخة السورية أو البخاخ السوري أو بخاخ مندس.. إلخ.

وفكرة البخاخ استلهمت بالأساس من المسلسل السوري الكوميدي «بقعة ضوء» الذي تضمن لوحة لاقت نجاحا منقطع النظير اسمها «الرجل البخاخ»، الذي يملأ جدران المدينة بعبارات احتجاجية ويدوخ أجهزة الأمن دون أن تتمكن من القبض عليه، فيتم منع الدهان البخاخ وكل من يشتريه يصبح موضع شبهات.

ولعل هذه اللوحة التي قدمت قبل عدة أعوام تعكس جانبا مما يجري اليوم على الساحة السورية، حيث باتت الدهانات البخاخة من ضمن عتاد الأمن والشبيحة خلال الاقتحام، فيتم تغطية الكتابات المناهضة واستبدالها بعبارات للرد على عبارات الثوار بأقذع منها، بل تصل إلى حد الإلحاد، مثل عبارات «ربكم بشار» وهذه تنتشر في المناطق المعروفة بتزمتها الديني مثل تلكلخ والرستن وتلبيسة وبانياس وجسر الشغور وحماه، ورب «العرب بشار» فهذه في المناطق ذات الكثافة البدوية التي توجد فيها عشائر لها امتدادات عربية، أما العبارات المعتدلة - في عرف النظام - فهي «سورية الأسد».. إلخ.

وما بين كر وفر كل فريق يقوم بمسح عبارات الفريق الآخر. فعندما يكر المتظاهرون إلى مواقعهم، يمسحون كلمة الأسد ويبقون على كلمة سوريا. وعلى جدران الجوامع وأبواب المحلات يكتبون ما يكيد الأمن والشبيحة «عرعور يا كايدهم»، وفي الفر وتقدم الشبيحة يتم العكس تستبدل الكلمات لتنقلب المعاني، وهكذا يضيع لون الجدران تحت خرابيش غالبا سوداء وحمراء وخضراء، ينثرها بخاخون محتجون وشبيحة غاضبون، ليأخذ وجه المدن والقرى لونا جديدا لا يمت للجمال بصلة وإنما للحرية والتحدي، مشهد يتجاوز في دلالاته الكيديات والتحديات والقمع، ليظهر أهمية الكلمة وقوتها كسلاح ثوري أمام عسف النار والحديد. فعندما كتب أحد الناشطين الشباب على باب محل وسط دمشق في أحد أيام الجمع كلمة «حرية» استنفر جهازا أمنيا بكامله واعتقل أكثر من 10 أشخاص بشبهة البخ على الجدران.