قبائل ليبية تسعى لاستعادة أراضيها المقام عليها «قصور البذخ والرعب»

بعضهم سارع ببناء أسوار داخل استراحات ومنتجعات للقذافي وعدد من أبنائه

TT

سور طويل ملون بالأخضر الداكن والأخضر الفاتح، وفي الداخل كانت مآس إنسانية تتحدث عن نفسها، وفي الخارج ينتظر مدعون من القبائل لاستعادة هذه الممتلكات لأنفسهم بعد نجاح ثورة 17 فبراير (شباط)، مدفوعين بالغضب من مظاهر «البذخ والرعب» التي وجدوا عليها أسرة حاكم ليبيا غريب الأطوار.

تعتقد للوهلة الأولى أنه مبنى لوزارة الدفاع أو للمخابرات. لكن في الداخل حيث انتهت المواجهات أخيرا، بين قوات الثوار وكتائب العقيد الليبي معمر القذافي، تجد نفسك وسط ممالك للرفاهية من غرب البلاد لشرقها، منتجعات وفيلات وقصور واستراحات وأراض أصبحت بين عشية وضحاها تخص القذافي وعددا من أبنائه.

في الواجهة، وعلى طول الجانبين تصطف أنواع من الأشجار النادرة.. نخيل مستورد وكافور ذو أوراق هرمية ونباتات زينة وورود ملونة لم تُرْوَ منذ أيام. وفي الخلفية كانت امرأة إثيوبية تنزف صديدا. ومن بعد ذلك تمتد مساحات زرقاء للبحر والبحيرات الاصطناعية التي شقت لها الأرض لتتشكل في مناظر خلابة.

هذا منتجع كان يتردد عليه عدد من أبناء القذافي. يقول أحد الثوار وهو ممسك برشاشه ويدور برأسه في كل اتجاه إن المقر يخص هانيبال (35 عاما) النجل الخامس للزعيم الليبي المختفي من الثوار الغاضبين. وكان تحت حذائه العسكري قطع من زجاج قنينة عطور محطمة ما زالت رائحتها تختلط بروائح الزهور. وكلما تكشفت بعض صور البذخ لأبناء معمر القذافي ازداد غضب الثوار القادمين من مناطق فقيرة عانت طيلة أربعة عقود من حكم العقيد الليبي من الفقر والتهميش.

وفي الداخل، حيث الردهة المصممة بأعمدتها الرخامية وفقا لطراز يعود لثقافة أباطرة دولة إيطاليا التي عانى الليبيون قديما من احتلالها لبلدهم طيلة سنوات، كانت طاولة كبيرة من خشب الزان عليها صناديق من أنواع مشروبات روحية فاخرة. لكن زجاجات الويسكي والشمبانيا اختفت بين أيدي الليبيين الذين اقتحموا المقر بعد أن هجره أهله المذعورون. وفي الخلفية كان خمسة من الثوار الملتحين والمتشددين دينيا يحطمون العشرات من زجاجات الخمور، وهم يصيحون: الله أكبر. وخلف ثلاثة من حمامات السباحة الكبيرة أطلق آخرون زخات من الرصاص ابتهاجا.

ونشبت في الجوار مشادة كلامية حين حاول بعض المواطنين شحن ما طالته أيديهم من ممتلكات تعود لابن القذافي المدلل، الذي سبق وتسبب في أزمة دبلوماسية بين بلده ودولة سويسرا. وكان أحد الشبان الآخرين يحطم بابا أبيض اللون ذي مقبض مذهب لاكتشاف ما يوجد خلفه، لكن مسلحا من الثوار منعه وبدأ في الطرق بشدة على الباب محذرا من أنه سيطلق الرصاص إذا لم يستسلم من بالداخل. لكن بعد أن تحطم الباب، لم يكن يوجد أحد في غرفة النوم التي بدت غير مرتبة. وفي ردهة أخرى مجاورة تمتد في السقف عناقيد الثريا وعلى الجانبين لوحات لمناظر طبيعية موقعة بأسماء أجنبية.ويوجد في المنتجع السكني المطل على البحر المتوسط إلى الغرب من العاصمة طرابلس الكثير من بقايا الأشياء التي تدلل على الطريقة التي كان يعيش بها الناس هنا. مساحات من النجيل الأخضر، وفي الواجهة مكان للشواء. وغرفة كبيرة تفتح على ساحة خضراء لها باب عريض يشبه باب مرآب مكدسة بأدوات مختلف الألعاب الرياضية من مختلف الماركات، بعضها ما زال في أكياسه لم يستخدم منذ استيراده.

وبعد ساعات كانت عربة محملة برجال مسلحين يقولون إن الأرض التي بنت عليها عائلة القذافي المنتجع الفخم تخصهم، وأن أبناءهم من الثوار، ومن حقهم امتلاك الأرض وما عليها. لكن ثلاثة من الثوار المسلحين ومعهم قائد ميداني يتحدث بطريقة حازمة، أقنع الرجال بأن أمر أملاك المواطنين التي خصصتها عائلة القذافي لنفسها طيلة السنوات الماضية ستفصل فيها الحكومة المقبلة، بما في ذلك مبنى باب العزيزية الضخم الذي كان مقرا لحكم القذافي بغرفه العديدة وبسراديبه الممتدة تحت الأرض ومبانيه الضخمة وحديقته الشاسعة التي تشبه الغابة، وما وجد فيه من جثث لمواطنين ليبيين.

وهناك آلاف الأفدنة في مختلف أنحاء ليبيا كانت تخص مواطنين لا حول لهم ولا قوة قبل أن تضع عليها عائلة القذافي يدها وتبني عليها منتجعات واستراحات للقذافي وأبنائه عنوة في طرابلس وسرت وبنغازي والبيضاء وطبرق وغيرها. واقترنت هذه المواقع بمظالم وفظائع يتحدث عنها الليبيون. ولم يكن بمقدور أي ليبي المرور بجوارها، وإذا انفجر إطار سيارة في شارع قريب من هذه الأماكن يضطر سائقها للسير بالسيارة بإطارها الفارغ كيلومترات بعيدا حتى يتمكن من تغييره في أمان.

وعلى موائد الإفطار وفي سهرات شهر رمضان، كان الجدل يدور حول ما إذا كان من حق الملاك القدامى استعادة أراضيهم وبيوتهم أم أن هذه الأملاك ستكون من اختصاص الدولة الجديدة. وأكثر ما يغضب الليبيين المحافظين بطبيعتهم في الأغلب، موضوع صناديق الخمر في منتجع هانيبال، وفي منتجعات أخرى دخلها الثوار أخيرا، خاصة أن الخمور ممنوعة في ليبيا طوال فترة حكم القذافي.

وكان العديد من الشبان الليبيين يضطرون للسفر إلى إيطاليا ومصر لتجربة مثل هذه الأمور التي كانوا يرونها في الأفلام فقط. ويعتبر الليبيون معاقرة الخمر من الكبائر التي لا تغتفر.

وفي سهرة عقب صلاة التراويح في منزل الشيخ امحارب الشهيبي، وهي عائلة كبيرة في ليبيا، كان يوجد عدد من الإسلاميين الذين أمضوا في المتوسط نحو خمسة عشر عاما في سجن أبو سليم الرهيب قبل تحريرهم الأسبوع الماضي. وبدا الحديث عن بذخ عائلة القذافي الذي طالما ظهر كرجل بدوي متقشف، أمرا لا يصدق. ويقولون إن العائلات الليبية صدمت من مشاهدة البذخ في باب العزيزية وفي منتجع البردي التابع لسيف الإسلام ومن خدم هانيبال الذين تعرضوا للتعذيب على أيدي أسرة ابن القذافي، وبدأوا يتذكرون موقف سويسرا حين اتخذت إجراءات عقابية ضد هانيبال في السابق بسبب تعذيب الخدم.

ويقول حسين الشهيبي من أبناء العائلة المنخرطة مع الثوار: هذا ليس من أخلاق الليبيين، مشيرا إلى أن الليبيين عاشوا محرومين من التمتع بثروات بلدهم الأغنى في إنتاج النفط، وتحملوا مصادرة عائلة القذافي لأراضيهم، كما أن لا أحد منهم يرغب في الظهور أمام العالم كمنتهك لحرمات الآخرين، حتى لو كانوا من خدمهم أو العاملين لديهم. ويضيف أن قيمة منتجع نجل القذافي تكفي لحل مشكلة الإسكان التي يعاني منها ألوف الليبيين في طرابلس منذ سنوات.

ويقول الليبيون إن نظام القذافي أكثر الأنظمة التي عمدت إلى مصادرة أراضي المواطنين لصالح أسرته، خاصة في السنوات الأخيرة. وتعد ليبيا من أكبر بلاد العالم، بعد منطقة الخليج العربي، استعانة بالعمالة الأجنبية من عدة دول خاصة من أفريقيا وجنوب شرق آسيا.. وفرّ ألوف من هؤلاء خارج ليبيا في ظروف مأساوية مع وقوع الاضطرابات بين الحكومة والثائرين عليها. ويقول الشهيبي إن الطريقة التي ظهرت من تعامل هانيبال مع خدمه والعاملين لديه ليست من أخلاق الليبيين.. «معاملة الليبيين وغير الليبيين كانت سيئة للغاية من قبل أسرة القذافي، وكأن الآخرين ليسوا بشرا».

وقرر محامون ليبيون الاستعانة بمن يقولون إنهم ضحايا تم اكتشافهم في منتجع هانيبال لإقامة دعوى قضائية ضده وطالبوهم بالإدلاء بشهادتهم أمام محكمة ليبية لاحقا.. وقال منصور العجني المحامي: سنلقي القبض على كل من أساء لليبيا وسنحاسبه. وعن مشكلة الأراضي أضاف أنها مشكلة كبيرة ينبغي أن يسارع المجلس الانتقالي بطمأنة أصحابها الأصليين لتعويضهم أو إعادتها لهم قبل أن تتفاقم المشكلة.. «البعض ينتظر استعادة أرضه منذ عقود.. هناك شعور جارف بأن هذا أصبح ممكنا الآن».

ومن وراء الأسوار العالية تحدثت الإثيوبية شويغا مولة، مربية طفلي هانيبال وزوجته اللبنانية إيلين سكاف، لـ«الشرق الأوسط»، وقالت إنها تعرضت للتعذيب الشديد على يد زوجة هانيبال حتى شارفت على الموت بسبب رفضها الامتثال لأوامر الأم بضرب الطفلين، وهما هانيبال جونيور (6 سنوات) وشقيقته أليسار (3 سنوات). وأضافت مولة، البالغة من العمر 31 عاما، إنها تمنت أن تفارق الحياة بسبب شدة التنكيل الذي تعرضت له، ومنه الكي بالنار وسكب الماء المغلي على جسدها إلى درجة تعرض جلدها للحروق والقروح، وكذا المنع من الطعام والكلام. وكانت آثار التعذيب ما زالت ظاهرة على جسدها وهي ملقاة بلا حول ولا قوة تحت ملاءة بينما كانت بعض القروح ما زالت تنزف من مناطق متفرقة من جسدها الأسمر الذي تحول إلى ما يشبه لون لحاء الشجر من كثرة التسلخات.

وقالت مولة إن زوجة نجل القذافي كانت تنهرها في بداية التحاقها بالعمل، إلى أن جاء يوم، منذ نحو سبعة أشهر، هددتها فيه بالتعذيب إذا استمرت في عصيان أوامرها في تربية طفليها. وأضافت أن زوجة هانيبال كانت تأمرها أن تضرب الولدين، وأنها كانت ترفض هذه الطريقة في التربية، لأنها ضد أبسط حقوق الإنسان. وتابعت أن التعذيب بحقها بدأ قبل أربعة أشهر ودام حتى تمنت الموت. وقالت أيضا إنها لم تسمع عن مشكلة هانيبال مع السلطات السويسرية حول سوء معاملة خدمه.

وكانت الشرطة السويسرية اقتحمت منذ نحو ثلاثة أعوام جناح هانيبال وزوجته بأحد الفنادق الفاخرة بسبب شكوى عن سوء تعاملهما مع مخدوميهما (امرأة تونسية ورجل مغربي)، وأثارت القضية أزمة دبلوماسية بين سويسرا وليبيا، حيث نفى الزوجان الاتهامات الموجهة إليهما.

وفي الوقت الراهن غير معروف مقر إقامة هانيبال وزوجته وطفليهما كما هو الحال بالنسبة للقذافي وآخرين من الأسرة. ودافع شقيق الزوجة، داني سكاف، عن شقيقته وزوجها ومزاعم قيامهما بتعذيب مربية طفليها، زاعما في تصريحات له أن هانيبال كان يعيش حياة متواضعة جدا وعادية.

ويقول الليبيون إن المشكلة ليست فقط فيما يوجد داخل منتجعات واستراحات أسرة القذافي من بذخ، لأن الدهشة ستنتهي مع الوقت، ولكن في ملاك الأراضي الأصليين الذين بدأ عدد منهم بالفعل في إثارة المشاكل مع الثوار وحكومة المجلس الانتقالي بسبب مطالبتهم باستعادة تلك الأراضي بما عليها، باعتبار أن ما عليها تعويض مشروع لسنوات الحرمان من ممتلكاتهم.

وفي استراحة القذافي الشاسعة التي دخلتها «الشرق الأوسط» أيضا بالقرب من ضاحية الهواري استولى بعض المواطنين على خيول وجمال وممتلكات كانت في الاستراحة المقامة على مئات الأفدنة. وسارع عدد منهم ببناء أسوار طولية وعرضية وبشكل غير منتظم بسبب العجلة، لحيازة قطع أراض يقولون إنها ملك لهم، قبل أن يتدخل الثوار، عن طريق سرية عسكرية يقودها سجين سياسي سابق يدعى أبو سندس، وتمكنت من إبعاد المواطنين المدعين بملكية أرض الاستراحة إلى أن يبت في الأمر المجلس الانتقالي أو الحكومة الليبية المنتظرة.

وحدث الأمر نفسه مع قطعة أرض في موقع مميز بالقرب من قلب مدينة بنغازي قرب مبنى مديرية الثقافة تساوي ملايين الدولارات سبق وتم تخصيصها لعائشة ابنة القذافي. ويقول مدعون من إحدى قبائل بنغازي إن الأرض اغتصبت منهم، وأنهم استعادوها بعد ثورة 17 فبراير (شباط) ولن يسمحوا بمصادرتها مرة أخرى.

وعلى الساحل الليبي أيضا وضع بعض أبناء القبائل أيديهم على منتجعين ومجمع خدمات يقولون إن أحد المنتجعين الواقع على مرفأ داخل سهل في منطقة البردي، وكذا مجمع خدمي كانا يخصان سيف الإسلام نجل القذافي وأن عددا من الأهالي بالقرب من المنتجع أزيلت بيوتهم من الأساس.

وزارت «الشرق الأوسط» خلال رحلة عبر الأراضي الليبية الموقعين، وكانت هناك خمسة يخوت ترسو في المرفأ الذي تم شقه خصيصا للمنتجع المحاط بالأشجار والنجيلة وبوابات الحراسة. ولم يكن هناك أي من العمال. وقال حارس من الثوار يدعى إسماعيل يقف على باب المنتجع المقفل بقضيب حديدي، إن كثيرا من أصدقاء سيف كانوا يترددون على هذا المنتجع قادمين من مدن شتى بالبحر المتوسط من إيطاليا وقبرص، دون أن يتم السماح لسكان المنطقة بالاقتراب من الشواطئ.

وأضاف أن مجمع الخدمات الذي يبعد عن المنتجع غربا بنحو ثلاثين كيلومترا استولى عليه صاحب الأرض الأصلي وأصبح يديره لصالحه، لكن هذا لن يستمر حين توجد حكومة جديدة تعيد عملية التصرف بهذه الممتلكات وما عليها. ودعا المجلس التنفيذي المنبثق عن المجلس الانتقالي الليبيين إلى الصبر إلى حين تحقيق الاستقرار في البلاد.