ليبيون: العيد من دون القذافي له طعم الحرية

استقبلوه بسعادة غامرة على الرغم من نقص الأموال والوقود وشحة المياه

مواطن ليبي يشتري لابنه الصغير ألعابا بمناسبة عيد الفطر من محل في طرابلس أمس (إ.ب.أ)
TT

«وقفت في الطابور يوما ولم أحصل على شيء، ورجعت الآن وأعطوني مائتي دينار بعد عذاب». قال عبد الرحمن الموظف في إذاعة «ليبيا إف إم»، ولديه ولد وبنت وزوجة يريد أن يدخل عليهم بهجة العيد، أما هو نفسه فلا يكترث، موضحا أن هناك عدة آلاف من الليبيين قضوا نحبهم من أجل الحرية، خلال الشهور الستة الأخيرة فقط، وهذا يكفي.

وازدحم مئات ألوف الليبيين أمام المصارف العامة والخاصة، في محاولة للحصول على جزء من رواتبهم التي لم يتسلمها قطاع كبير منهم منذ اندلاع ثورة 17 فبراير (شباط) التي أطاحت تقريبا بحكم العقيد الليبي معمر القذافي وأسرته. ومن على بعد عدة شوارع يمكن أن تسمع اللغط والصياح والمشاحنات. وحين تتبين الأمر تجد طوابير تمتد لأكثر من مائتي متر لليبيين يريدون الحصول على أي مبلغ مالي بعد أشهر من الحرمان، من أجل إدخال بهجة العيد على أسرهم في ظل شح في البنزين والغاز المنزلي والخبز والمياه.

ويحتفل الليبيون بعيد الفطر اليوم (الأربعاء). وتمكن المجلس الانتقالي الذي يدير المدن المحررة في نحو 80 في المائة من البلاد، من توفير كميات من الوقود والأموال، لكن هذا لم يتم إلا في وقت سبق موعد العيد بيومين أو ثلاثة. وقال المجلس الأعلى للإفتاء في ليبيا إن يوم أمس هو المتمم للثلاثين من شهر رمضان، وإن أول أيام عيد الفطر المبارك اليوم. وهذه أول مرة يأخذ فيها المجلس الأعلى للإفتاء زمام المبادرة، بعد أن كان الأمر يخضع في مجمله لسلطات القذافي.

وهذا ليس المتغير الوحيد في أول عيد فطر لليبيين خارج نظام القذافي، فالمتغير الأهم هو قدرة الليبيين على الخروج للصلاة في الساحات العامة، وهو أمر كان محظورا في السابق. ويقول إدريس عجينة، المعلم في مدرسة جمال عبد الناصر الابتدائية: «الدعوة للصلاة في الخلاء كانت من المحرمات. أستطيع أن أقول اليوم إننا كليبيين يمكننا أن نفرش في الساحات العامة ونصلي جماعة.. الفرحة بعيد خال من القذافي أهم من أي شيء آخر حتى لو لم نتمكن من شراء دبش (كسوة) العيد للأولاد».

وفي ثاني مساء قبل العيد، دبت الحركة في طرابلس وازدحمت السيارات في مداخل سوق الجمعة والأسواق الشعبية المنتشرة في الضواحي الشمالية التي تشهد استقرارا أكثر من الضواحي الجنوبية.

ويقول محمد حسين، وهو سائق سيارة أجرة في طرابلس، إنه يريد اللحاق بمحطة التموين لملء خزان الوقود لسيارته، بعد أن استنفد خزان الوقود الأساسي والاحتياطي طيلة الأسبوعين الماضيين، اللذين كانا بلا عمل بسبب الأحداث التي شهدتها المدينة لطرد قوات القذافي منها.

وأضاف وهو يضع راحة يده على الشعر الفاحم لرأس ابنه ذي السنوات السبع: «من دون الوقود لا نقدر أن نتحرك، آمل أن ينشط العمل في أيام العيد»، في إشارة إلى عادات الليبيين الذين يكثرون من التزاور فيما بينهم في إجازة العيد التي تستمر حتى يوم الجمعة المقبل.

واشترى السائق حسين لعبة لابنه على شكل مدفع رشاش من النوع الذي استخدمه الثوار بكثرة لحماية أنفسهم ضد كتائب القذافي. ومضى دون أن يتوقف أمام محال بيع ملابس الأطفال، ومن بعيد كان علم الثوار بألوانه الأخضر والأحمر والأسود يرفرف من فوق سيارته الأجرة البيضاء.

ولاحظ مسؤولون في إدارة الإعلام المركزي للمجلس الانتقالي الذي يدير البلاد، ويرأسه مصطفى عبد الجليل، أن نشاط الأسواق والحركة في المدن الشرقية والغربية أكثر منه في العاصمة طرابلس التي ما زال التجار يتخوفون من عدم الاستقرار فيها. لكن سكان ليبيا يشتركون على ما يبدو في همّ واحد مكوم في سلة واحدة، حيث تطل مشكلات خدمية أساسية، على رأسها نقص المياه والوقود واستمرار مشكلات الاتصالات الهاتفية الأرضية والنقالة في الكثير من المناطق.

ومن المقرر، بحسب الدعوات التي انتشرت عبر الإذاعات المحلية والملصقات، أن يصلي الليبيون في مدنهم المحررة في الساحات التي أصبحت تحمل اسم «الشهداء»، والتي تقع في بنغازي أمام مقر المحكمة على شاطئ البحر، وتقع في العاصمة طرابلس في ما كان يسميه نظام القذافي «الساحة الخضراء».

وفي المساء، أطلق شبان من الساحة الخلفية للفندق ألعابا نارية زينت السماء. وكان يمكن أن تراها من فوق أسطح البنايات وهي تتفتح في الظلام. وعلى الرغم من الأفراح المنتشرة في ربوع ليبيا بوصول أول عيد للفطر من دون نظام القذافي، فإن هذه هي المرة الأولى، منذ نحو أربعة عقود التي يشعر فيها الليبيون، أصحاب أهم دولة نفطية قريبة من أوروبا، بالضنك وقلة الحيلة وضيق ذات اليد، بسبب الاضطرابات التي شهدتها البلاد وتسببت في انقطاع إمدادات النفط إلى الخارج، وفرض عقوبات على نظام القذافي المتهاوي، وتأخر المجتمع الدولي في الوفاء بالتزاماته المالية تجاه المجلس الانتقالي الذي يسعى لتأسيس دولة القانون الجديدة في ليبيا.

«يمكننا أن نتحمل.. العيد الحقيقي هو سرعة الخلاص من القذافي.. ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر». يقول سعد محمد الموظف في ميناء طرابلس البحري، وهو يقف في طابور طويل من عدة طوابير أمام مصرف الجمهورية في انتظار الحصول على جزء من راتبه الذي لم يتقاضاه منذ نحو شهرين. وقال وهو يميل خارج الطابور ليحتمي بشجرة بسبب شدة الحرارة: «التعليمات التي وردت للبنوك صرف 200 دينار فقط.. راتبي عن الشهرين الماضين ألفا دينار. مهما كان راتبك فالصرف لن يزيد عن مائتي دينار. ما دام الأمر يسري على الجميع فلا بأس. كلنا إخوة وعلينا مراعاة ظروف بعضنا بعضا للمرور من هذه الأوقات العصيبة».

وقالت عجوز تدعى عافية وتقف في طابور النساء، الأقصر من طابور الرجال، إنها تريد أي نقود من معاشها الشهري لتشتري هدايا العيد لأحفادها. وتضيف وهي تحبك لف نفسها بالرداء الليبي التقليدي الشهير (قماش ملون بخطوط مفضضة): «نحن الكبار نتحمل.. اللعبة حتى لو كانت رخيصة الثمن لكنها تدخل البهجة على الأطفال». ولـ«عافية» حفيدان من ابنها الذي تقول إنه استشهد منذ أربعة أشهر في معارك في صفوف ثوار الزاوية، غرب طرابلس. ويشتهر الليبيون بالاحتفاء بالأعياد والتباهي بالتفنن في إتقان صنع الطعام. ويقيمون ولائم جماعية في ظهر يوم عيد الفطر من المعكرونة المطبوخة بالطماطم واللحم، هذا بالنسبة للمدن، أو العيش المقطع في بعض مناطق البادية (يشبه الأكلة الإيطالية المعروفة باسم «ألفريدو» لكن بصنعة محلية)، إضافة إلى الإكثار من ألوان الفاكهة والحلويات. لكن هذه المرة، وإضافة إلى نقص في الأموال والمؤن، يوجد لكل جار أو قريب ثائر ما زال يقاتل على جبهات كتائب القذافي و«شهيد» ضحى بروحه من أجل «التحرير والكرامة».

وبينما كان بعض الثوار يطلقون الرصاص في الهواء ابتهاجا بقدوم العيد، قالت عافية بصوت مرتفع لتسمع الآخرين في الطوابير المجاورة: «هذا ليس عيد الفطر فقط، بل عيد الانتصار على الطاغية. الله أكبر.. الله أكبر.. الله يرحم الشهداء وينصر الثوار».