مقبرة جماعية في الوادي الأحمر تضم رفات 45 ليبيا من الشباب والشيوخ والصبية

جنود القذافي تظاهروا بأنهم مواطنون موالون للثورة واستضافوا الثوار.. ثم قتلوهم وهم نيام

TT

زارت «الشرق الأوسط» مقبرة جماعية في منطقة الوادي الأحمر تضم 45 جثة. وهي واحدة من مواقع تشهد على الفظائع التي ارتكبتها قوات العقيد الليبي معمر القذافي في مواجهة المعارضين لحكمه، منها كمائن أخرى تتسم بالخسة، استقبل فيها جنود الكتائب فرق الثوار باعتبار أنهم من المعارضين للقذافي، وقدموا لهم واجب الضيافة حتى اطمأنوا لهم، ثم قاموا بتصفيتهم بالرصاص.

ويقدر الثوار عدد القتلى منذ بداية ثورة 17 فبراير (شباط) بنحو 50 ألف شخص ما بين مدنيين ومسلحين، وفقا لما أفاد به هشام أبو حجر، منسق كتائب العاصمة طرابلس.

قبل شهر رمضان تقدم 9 مقاتلين من الثوار إلى الأمام نحو 20 كيلومترا في 3 سيارات دفع رباعي عليها مدافع رشاشة، دون أن تعترض طريقهم أي قوات من كتائب القذافي المتحصنة حول مدينة سرت الاستراتيجية التي تعد بمثابة مسقط رأس العقيد الليبي الذي حكم البلاد 42 عاما.

لكن هذا كان مجرد كمين على مشارف الوادي الأحمر سقطت فيه قوة المشاة الصغيرة غير المدربة جيدا، التي تتكون من متطوعين جاءوا من بنغازي وأجدابيا، كان من بينهم الشاب البالغ من العمر 21 عاما، جفيلة المجبري.

انقضت قوات الكتائب على المجموعة في الفجر أثناء الاستراحة في منطقة الوادي الأحمر قليلة السكان. وفي تلك اللحظة حاول 3 من مشاة الثوار الفرار، لكن قذيفة مدفعية طيرت سيارتهم في الهواء وكتل اللهب في انفجار قوي. واستسلم الـ6 الآخرون. وفي معسكر للكتائب يقع على الطرف الغربي من الوادي الأحمر وجد جفيلة عشرات الأسرى الشبان من رفاقه الذين جمعتهم قوات الكتائب من جبهات مختلفة قرب سرت. وكان عمر بعض الأسرى لا يتعدى الـ17 عاما.

يوجد في معسكر الكتائب قاطع إسمنتي طويل وعريض بداخله فواصل من الجدران يشبه كل منها المرأب الواسع، يستخدم لإخفاء المعدات والآليات والشاحنات العسكرية، لكنها ضمت أيضا أقفاصا حديدية شبه دائرية يتسع كل منها لشخصين. وزج أحد الضباط بالشاب جفيلة في قفص كان بداخله رجل عجوز يزيد عمره على السبعين عاما. كان صوت الضرب والتعذيب والصياح والأنات يأتي من باقي أنحاء الغرف المفتوحة على اليمين واليسار. ولم يكن الكلام مسموحا. ضباط وجنود يعبرون على عجل هنا وهناك.

قبل الظهر امتلأت الأقفاص الحديدية بثوار جاءوا بهم من مناطق مختلفة. وارتفع الصراخ أكثر من السابق. الأوامر أن تهتف بأن العالم هو «معمر وليبيا بس». ونال جفيلة الدفعة الأولى من نصيبه من التحقيقات والضرب، لكن كان ذلك أقل من الآخرين بسبب الإعياء الشديد الذي كان عليه شريكه في الزنزانة الصغيرة، الرجل العجوز. كان جفيلة يعلم أنه هالك لا محالة.

في وقت العصر أدخلوا شابا إلى الزنزانة الصغيرة نفسها. وبعد ساعة أدخلوا شابا رابعا يدعى محمد، من بنغازي. وأدرك جفيلة أن محمد هو شقيق زوجة ضابط من ضباط المعسكر. ولم يعرف اسم هذا الضابط، لكنه كان من سرت، وكان خائفا من معرفة آمري المعسكر بصلة القرابة بينه وبين محمد. وكلما خلت الغرفة التي تشبه المرأب من الضباط والجنود، يأتي هذا الضابط، ويتبادل الحديث مع شقيق زوجته المحتجز في القفص.

ويجدد الضابط التنبيه على محمد بألا يذكر صلة القرابة بينهما مهما عذبوه. وقال إن الجنود يستعدون لتعذيب الأربعة الذين في هذا القفص، بمن فيهم الرجل العجوز، لكي يدلوا بكل ما لديهم من معلومات عن باقي الثوار وتحركاتهم وأنصارهم وأقاربهم. ونصح الضابط شقيق زوجته محمد بأن يتظاهر بأنه فقد الوعي حتى يتوقفوا عن ضربه. ووعده بالعمل على تهريبه خلال الليل.

والتقت «الشرق الأوسط» جفيلة وهو وسط أسرته، وروى في اللحظات التي كان يعود فيها لوعيه ما حدث بعد ذلك. انصرف الضابط، وبعد أقل من نصف ساعة دخل 5 من جنود الكتائب ونعتوهم بالمرتزقة والجرذان والعملاء. وأخرجوا الرجل العجوز أولا، وصاح أحدهم في أذنه بصوت هستيري هز الجدران: قل معمر وبس.. قل معماااااار..

وركله جندي آخر، وحين مال إلى جانب، كان الدم يسيل من فمه، بينما كان جندي ثالث يوصل سلك كهرباء إلى قدميه، لكن العجوز همد ومات. حدث هذا أمام الشبان الثلاثة الذين كانوا ما زالوا داخل القفص الحديدي. وتقدم جندي وجذب الشاب محمد من الداخل، وبدأوا يسألونه وهو لا يجيب إلا بكلمات مقتضبة: لا أعرف، ولم يحدث. وحالما شرعوا في ضربه بالسياط، لكن حيلة الإغماء التي لجأ إليها محمد لم تسعفه، فقد أيقظوه بماء مغلي سكبوه على رأسه حتى احمر وجهه وبدأ يتسلخ وهو يصرخ. وجره أحد الجنود من قدمه واختفى به خارجا وقد انقطع صوته.

وجاء الدور على جفيلة. كل ما يذكره أن جنديا أسمر طويلا وعريضا لف قبضته على عنقه وجذبه من بوابة القفص للخارج، بينما اعترض جندي آخر جسده المندفع، فتهاوى وارتطم رأسه في السور المقابل، ولم يشعر بأي شيء بعد ذلك.

يقول جفيلة، بينما والده يشجعه على مواصلة الكلام: بدأت أستفيق، لكنني كنت أشعر بالاختناق وكانت الدنيا سوداء، وحين حركت يدي وجدت شيئا أملس يصدر صوتا من حولي. أنا داخل كيس بلاستيك. مزقته، وخرجت منه، فوجدت نفسي عاريا تماما لا تسترني قطعة ملابس. وتلفتُّ حولي فوجدت نفسي في حفرة، وجثث موتى كثيرة ملقاة حولي، كان الوقت الضحى تقريبا.

ووصلت «الشرق الأوسط» إلى المقبرة الجماعية التي نجا منها جفيلة، بعد أن أصبحت خلف خطوط الثوار وهي تقع خلف سد ترابي على بعد 3 كيلومترات إلى الشرق من معسكر كتائب القذافي الذي أصبح مهجورا الآن. وبدأ عدد من الرجال في تفقد الضحايا الذين كانت ملامحهم مشوهة ولم تكن هناك أي أوراق أو علامات تدل على هوية أي منهم. وكان أغلبهم من الشباب، وكان هناك عدد أقل من الشيوخ والصبية، بمن فيهم العجوز ومحمد والشاب الرابع الذين كانوا في زنزانة جفيلة.

وتضم المقبرة رفات 45 ليبيا جرى دفنهم هناك، وأصبح الليبيون يطلقون عليها اسم «مقبرة الوادي الأحمر» نسبة للمكان الذي وُجدت فيه. وحين استيقظ جفيلة من غيبوبته وخرج من الكيس البلاستيكي، وحين وجد العيون والأفواه المفتوحة للموتى من حوله، والذباب الأزرق يطن فوقها، هرب وأخذ يجري في الصحراء، ولم يدرك أنه بلا ملابس تستره إلا بعد أن خالط رعاة إبل من نجع يسكنه البدو في الجنوب. أمسكوا به، وألبسوه مما معهم، وأطعموه، وهدأوا من روعه، وفي صباح اليوم التالي أعادوه إلى الطريق الرئيسي الذي يسيطر عليه الثوار، ليعود من هناك إلى الخطوط الخلفية للتعافي.

ويحمل الثوار الذين انتقلوا من مدن الشرق والغرب للمساهمة في تحرير العاصمة طرابلس حكايات لتصرفات خسيسة قامت بها كتائب القذافي، على مدى أشهر منذ قيام ثورة 17 فبراير، منها على سبيل المثال: عمليات الاستقبال والاستضافة التي كان يقوم بها جنود من الكتائب متخفين في شكل مواطنين عاديين في مدن البريقة وبن جواد والزاوية. وبعد أن يأكل الثوار ويشربوا ويطمئنوا لمستضيفيهم، يتخلون عن الحرص ويخلدون للنوم والاستراحة من عناء التعب. وعند ذاك يقوم جنود الكتائب بسحب الأسلحة منهم، وتوثيقهم وإرسالهم إلى معسكرات الكتائب الرئيسية للتحقيق معهم. ويقول الثوار: إن بعض جنود الكتائب كانوا يقومون بتصفية الثوار أثناء النوم، وإنهم عثروا على عشرات الجثث لثوار لقوا حتفهم بهذه الطريقة في غرف الاستضافة في راس لانوف والبريقة والزاوية وغيرها.

وقال أبو حجر: إن نحو 50 ألف شخص قُتلوا منذ بدء الثورة الليبية، وإن هذه الأعداد تشمل المدنيين والمسلحين الذين قاتلوا للإطاحة بحكم القذافي، وفقا لما تم جمعه من بيانات من معارك طرابلس ومصراتة وجبل نفوسة وغيرها في عموم ليبيا.