شوربة العدس والفلافل والتبولة حاضر دائم في مواجهة الـ«غراوند زيرو»

مطاعم أغلقت وأخرى استمرت في تقديم أطباقها منذ 10 سنوات من الهجمات الإرهابية

TT

كان الوقت منتصف فترة ما بعد الظهر، في يوم يتساقط فيه رذاذ خفيف من المطر في منطقة مانهاتن المالية. وفي مطعم الفانوس السوري واللبناني، تملأ المعجنات والكعك المحشو بالبلح واجهات العرض الزجاجية الضبابية. وتأتي أوعية شوربة العدس البلاستيكية المكتنزة وعلى سطحها قطع البصل المقلي. ويرى الكثيرون أن فلافل المطعم المقلية كما يجب، الملفوفة في الخبز الرقيق، والتي تقدم مع مجموعة لذيذة من المخللات والصلصة الحارة، هي من بين الأفضل في نيويورك.

ورغم كون الأطباق لذيذة، فإنها في حد ذاتها ليست هي ما يلفت الانتباه بشأن مطعم الفانوس. الشيء المدهش هو وجود هذا المطعم في الأساس، واستمراره في العمل يوما بعد يوم، بعد 10 سنوات من الهجمات الإرهابية التي أدت إلى انهيار مركز التجارة العالمي القريب من المطعم، وهزت هذا الحي القديم في نيويورك، والذي سعى جاهدا منذ ذلك الحين من أجل البقاء.

وقال محمد الشامي، الذي افتتح مطعم الفانوس في عام 1999، وفضل أن يستمر في تشغيل المطعم بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 «نحن من سكان نيويورك. ولم يكن بوسعنا أن نكتفي بإغلاق المكان والانصراف».

تمتلئ الشوارع الضيقة المزدحمة حول منطقة «غراوند زيرو» بالكثير من القصص التي تشبه قصة الفانوس. بعضها انتهى نهايات سعيدة، بينما البعض الآخر كانت له نهايات مختلفة.

وعلى الجانب المقابل من المكان الذي يقوم فيه عمال البناء بتركيب النصب التذكاري لهجمات 11 سبتمبر والمباني المحيطة به، يمتلئ متجر من سلسلة متاجر «سنشرى 21» بالمتسوقين، الذين يبحثون عن فساتين «كالفن كلاين» وبلوزات «ياماموتو». على مقربة من المكان، كان يوجد متجر «حلويات إيفلين»، وهو متجر بسيط كان ذا شهرة لبيعه أنواعا من المغطى بالشوكولاته والزبيب، وهو مغلق حاليا للأسف. وكذلك «موران»، وهي حانة آيرلندية كانت تحظى بالشعبية يوما ما. ولكن المطعم المكسيكي الصغير «تاجن» لا يزال يقدم أطباق التاكو الشهية ومعها مشروبات من عصير البطيخ. ولا تزال كنيسة الثالوث وول ستريت، التي كانت منطقة انطلاق لعمال الإنقاذ بعد الهجمات، واحة جميلة لـ«إحياء القوطية» وسط غابة من المباني المكتبية الشاهقة.

وكان من الصعب تخيل هذا المشهد يوم 11 سبتمبر 2001. ففي ذلك اليوم، كان الحي أشبه بمنطقة حرب. حيث امتلأت الشوارع برجال الإطفاء وضباط الشرطة. وكلما اقترب المرء من منطقة «غراوند زيرو» وجد نفسه يخوض في الأوراق التي كانت تنهال من الأبراج، من مذكرات مكتبية وبطاقات عمل، كان بعضها يحمل توقيعات على الحواف. لقد بدا الأمل في مستقبل عادي مستحيلا في ذلك الوقت.

ولكن المنطقة أعيد بناؤها، رغم أنه لم يكن عملا سهلا. ويتذكر الشامي الشهور الأولى من العمل التالية للهجمات. فالناس، كما قال، كانت تأتي من الشارع وتنعته بأنه إرهابي، قائلين له بأنه ينبغي عليه «العودة لوطنه». ولكن زبائنه المعتادين التفوا حوله.

وقال: «بعضهم جعل من ضمن أعماله أن يأتي ويبقى معي حتى موعد الإغلاق، حتى يتأكد من أنني قد غادرت بسلام، وهذا ما جعلني أكثر تصميما على البقاء».

وبعد أقل من شهرين بعد الهجمات، رأيت علامة مبكرة على أن الحياة قد بدأت تعود إلى الحي. فبينما أنا أمشي على طول شارع غرينتش بعد ظهر أحد الأيام، على مبعدة عدة مبان فقط من منطقة «غراوند زيرو»، لمحت بعض الناس تختفي وراء باب عادي لا يحمل أي علامة مميزة، خلف مطعم إيطالي. وعندما تتبعتهم، وجدت نفسي في شريحة مظلمة من حانة مكتظة برجال يرتدون سترات، وعمال يأخذون فترة راحة من تطهير موقع البرجين التوأمين. وخلف الطاولة، كانت نادلات شبه عاريات يسكبن أكوابا كبيرة من البيرة والكوكتيلات. وكانت الموسيقى تصدح من جميع الاتجاهات. وبعد عدة سنوات تالية، كانت حانة «كورداتو» تعمل بكامل طاقتها. فمؤخرا، وفي الرابعة عصرا من أحد أيام الأسبوع، كانت الحانة مليئة بالزبائن المعتادين، الذين كانوا مفتونين بأقداح الجعة الخاصة بهم، مثل افتنانهم بالنادلة التي ترتدي البكيني وتقوم بجولتها لتوزيع المشروبات.

وفي السنوات الأخيرة، انضم إلى الحي، إلى جانب حانة «كورداتو»، بعض النشاطات التجارية الراقية. ففي نادي سيتا وسبا، على بعد دقائق قليلة، يمكنك الآن عمل تجميل للوجه مقابل 285 دولارا، وعمل تقليم للأظافر مقابل 95 دولارا.

ويقدم مطعم شو شون هرجات الآسيوي الفرنسي الفاخر، والموجود في الطابق السفلي مباشرة، وجبة من كوكتيل نبيذ ذهبي متألق وطبق من كبد الإوز مقابل 15 دولارا. وعلى مسافة قليلة إلى الشمال من منطقة «غراوند زيرو»، في شارع موراي، هناك يقع «تاكاهاشي»، وهو مخبز ياباني أنيق يبيع حلويات مبتكرة (كعك الفراولة والبيريلا، وكعكة الذرة وفول الصويا) بقدر ما هي جميلة.

كما شهد مؤخرا واحد من أكثر المباني إثارة للاهتمام في المنطقة عملية تجديد أيضا. حيث تقع حانة فراونسيس في مبنى صغير من الطوب في شارع بيرل، يعود إلى القرن 18، وهو المكان الذي ودع فيه جورج واشنطن ضباطه في نهاية الحرب الثورية. وحتى وقت قريب كانت توصف بأنها حانة محلية ومطعم بسيط. ولكن في وقت سابق من هذا العام، قامت مجموعة «إيريش بورترهاوس» بشراء المكان وتجديده. وعندما ذهبنا إلى هناك في إحدى الليالي مؤخرا لتناول بعض المشروبات، وجدنا فرقة آيرلندية تملأ الحانة بأغاني كمان حية. ورغم الديكور الآيرلندي الحديث، فإن الطعام ما زال يحمل صبغة العالم القديم، مثل فطيرة الراعي، والسجق، ولفائف النقانق المنزلية الصنع.

وقد اخترت أنا وأختي بقعة تجمع بين القديم والجديد، لنشرب نخب نهاية اليوم الأول لنا من مشاهدة معالم المدينة، وهي فندق «دبليو نيويورك»، الذي افتتح العام الماضي. حيث جلسنا، أنا ودافني، في بار اللوبي الفخم، المليء بوسائد الجلوس الملونة والأنيقة، والأرائك الداكنة اللون، نرتشف كوكتيلات الشمبانيا ونأكل معجون تمر العليق والنعناع الطازج. وقد بدا هذا البار شبيها بالكثيرين غيره، خاصة مع جيش النادلات اللاتي يرتدين ملابس سوداء أنيقة، والـ«دي جي» الموجود في ركن المكان. ولكن عندما استقررنا في أريكتنا، تذكرنا بالضبط أين نحن. فعبر النوافذ الكبيرة كان بإمكاننا أن نرى الفجوة الفاغرة التي خلفها بنك دويتشه القديم، ومن خلفها منطقة «غراوند زيرو».

ويقوم «المركز التكريمي لزوار مركز التجارة العالمي» بمساعدة السياح على فهم المنطقة وتاريخها الحديث. حيث ستحصل، مقابل 15 دولارا، على دليل سياحي من الصور والأشياء الأخرى التي تحكي قصة 11 سبتمبر 2001. (لقد دهشت لرؤية متجر لبيع الهدايا يبيع حلي عيد في ذكرى هذا الحدث بـ9.95 دولار).

ولكن قد يكون أفضل وسيلة لتقدير هذا الحي هو المشي على طول متنزه «باتري بارك». فجزيرة إيليس، التي تعد رمزا دائما لأمتنا متعددة اللغات، تقع في وسط المياه. وخلفها، على مسافة لا تبعد عنها كثيرا، يوجد تمثال الحرية، الذي يرتفع عاليا في السماء. (وقد اتضح أن مطعم جينجو الإيطالي، الذي يطل على مساحة واسعة من ميناء نيويورك، من أفضل الأماكن لرؤية كل هذه المعالم، بينما يتناول المرء كأسا من النبيذ).

ومررت في المتنزه، بمجموعة من المربيات اللاتي يتحدثن في الهواتف الجوالة، والسياح الذين يتوقفون كل بضع خطوات لالتقاط صورة أخرى، ثم توقفت عند متحف التراث اليهودي، الذي يقام به معرض جديد يحمل اسم «ياهرزيت: في ذكرى 11 سبتمبر»، حيث يعرض المعرض صورا لأحداث ذلك اليوم، ويوثق استجابة المجتمع اليهودي للهجمات.

وفي الطابق الثالث، توقفت لرؤية نصب «أصوات الحرية»، التي امتلأت بالمقاعد المطلة على المتنزه والميناء. وقد غمر ضوء الشمس الساطع الغرفة، بينما خارج النافذة، في المتنزه بالأسفل، رقدت فتيات ترتدين البكيني على مناشف للتشمس. وتزاحم الراكضون مع المتزلجين وراكبي الدراجات من أجل الحصول أكبر مساحة من الرصيف. وشقت عبارات مليئة بالسياح طريقها عبر المياه المتلألئة.

وهذا كانت الحياة تمضي، كما كانت تفعل دائما.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»