«الشرق الأوسط» ترصد منافذ تهريب السلاح الليبي عبر الحدود البرية

أخطرها صواريخ «سام 7» والتجار يبيعونها لجهاديين في غزة وشمال أفريقيا

TT

في منزل أبيض اللون من طابقين، تحيطه أشجار خضراء، على بعد نحو تسعين كيلومترا إلى الشرق من مدينة بنغازي في ليبيا، توقفت سيارة. نزل خمسة من التجار. بعد دقائق كانت مفاوضات تجري حول أكواب الشاي: «هذا نوع من الكلاشن الكوري.. سعره فيه. لا يمكن النزول بالسعر أكثر من هذا». وتوجد في خلفية المنزل، داخل السور، ثلاثة مخازن لأسلحة وذخيرة تم الاستيلاء عليها من مخازن الجيش الليبي.

أصبح هذا الموضوع يخيف العالم، بسبب إمكانية وصول أسلحة خطيرة ومتطورة وبعيدة المدى، إلى أيدي الجماعات الإرهابية والجماعات غير القانونية، خاصة تنظيم القاعدة الذي ينشط في الشمال الأفريقي المطل على البحر المتوسط، وحركات الجهاد الإسلامي المنتشرة في قطاع غزة.

في المخزن الأول، عشرات من قطع الكلاشنيكوف (المعروفة أيضا باسم «إيه كيه 47»). وبدأ الحديث مجددا أمام الباب واجهة المخزن عن الأسعار.

قال التاجر الذي يدعى سعيد، وهو صاحب البيت أيضا: «كل هذا صناعة كورية، وليس من النوع الروسي القديم». ويطلق على نوع من الأسلحة الخفيفة قريبة الشبه من الكلاشنيكوف اسم «كوري 11». ورصدت «الشرق الأوسط» عملية بيع أسلحة ونقلها من بنغازي إلى حدود مصر.

اشترى التاجر المصري، وهو شاب في الثلاثين من العمر، 15 قطعة كلاشنيكوف كوري، بسعر 2300 دينار ليبي (نحو 1700 دولار أميركي) للقطعة الواحدة. وقال هذا الشاب الذي يعرف نفسه باسم زياد، إنه كان يتاجر في المخدرات قبل أن يتجه إلى تجارة الأسلحة المربحة، التي بدأت على نطاق واسع في أعقاب ثورة 17 فبراير (شباط) ضد حكم العقيد الليبي معمر القذافي.

وكان زياد، قد اتفق على بيع هذه الدفعة من الأسلحة لتاجر مصري آخر بسعر 14 ألف جنيه للقطعة (نحو 2300 دولار أميركي)، من دون أن يتحمل مخاطرة العبور بها، عبر المنطقة الصحراوية من الحدود المصرية - الليبية، التي تبعد عن بنغازي نحو 600 كيلومتر. ويقول زياد، إنه كان، في السابق، يتحمل مشاق توصيل الشحنة إلى داخل الحدود المصرية، لكنه توقف عن ذلك بعد أن بدأت سلطات الحدود المصرية تلقي القبض على البعض.

ومنزل سعيد الواقع جنوب شرقي بنغازي، هو واحد من بيوت كثيرة لتجار ليبيين، تنتشر على طول الصحراء من مدينة إمساعد، على الحدود الليبية - المصرية شرقا، إلى أقصى الغرب على حدود ليبيا مع تونس والجزائر. وفي كل منطقة يوجد تاجر على الأقل من أولئك الذين يقتنصون الفرص، له أتباع ومساعدون وطرق خاصة.

وفي أيام حكم القذافي، كان زياد وسعيد وتجار آخرون، يتعاونون في تأمين أطنان من المخدرات كل سنة من حدود ليبيا مع الجزائر إلى حدود ليبيا مع مصر.. «والآن يتم استخدام الدروب نفسها لتهريب السلاح من ليبيا إلى الجزائر ومصر»، يقول زياد. ويضيف: «عثر رجال سعيد على دشمة سلاح قرب منطقة الأربعين ناحية أجدابيا، فما حاجته لجلب المخدرات الآن». وأثناء شرب الشاي في غرفة الضيافة لدى سعيد، تردد اسم دشمة أخرى كانت تابعة للجيش في منطقة البطنان ناحية مدينة طبرق، لكن لم يكن ضمن الاتفاق طرح أي أسئلة صحافية على سعيد، حول مثل هذا الموضوع.

إلا أن زياد يوضح، بينما سيارة الدفع الرباعي تنطلق من الطريق الجنوبي من بنغازي في اتجاه الشرق، قائلا، إن ضابطا سابقا في الجيش الليبي، هو من أرشد رجال سعيد إلى دشمة الأسلحة، نظير حصوله على نسبة من حصيلة البيع.. «هذا أمر عادي.. ومعروف». و«كان أهم ما في الدشمة ما يزيد على 500 صندوق ذخيرة كلاشنيكوف.. طلقات من عيار 7.62 × 39 ملليمترا»، مشيرا إلى أن صفقات كبيرة عقدت خلال الشهرين الماضيين، بين تجار قدموا من شرق ليبيا وغربها، على أسلحة تم العثور عليها في مستودعات للجيش جنوب بلدة أجدابيا بنحو عشرين كيلومترا، وشرق بنغازي في البطنان وشحات والبردي.

وتقول المعلومات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط» من عناصر سابقة في الجيش وفي اللجان الثورية، خلال جولة في طرابلس وبنغازي وطبرق، إن «الغالبية الغالبة من الدشم نهبت.. الذي لم يأخذه الثوار أخذه آخرون.. ألوف من مختلف الأنواع اختفت، بما فيها صواريخ سام 7»، حيث يوجد اعتقاد أن عدد مثل هذه الصواريخ في ليبيا كان يصل إلى أكثر من 20 ألف صاروخ.

والغريب أن هذا النوع من الصواريخ المحمول على الكتف، الذي يمثل خطرا على الطائرات، ويصل مداه إلى نحو 3500 متر، أقل ثمنا بكثير من أسعار الكلاشنيكوف والمسدسات التي تباع في السوق السوداء عبر الحدود الليبية. ويبلغ سعر الصاروخ الواحد نحو ألف دينار ليبي في إمساعد، ويباع للتجار المصريين قرب الحدود، بنحو 7 آلاف جنيه مصري (الدينار الليبي يساوي نحو 4 جنيهات في السوق المحلية على جانبي الحدود). ويقول زياد، إن سعره يزيد يوما بعد يوم، مع إقبال بعض التجار القادمين من سيناء على هذه الصواريخ التي لا تجد لها سوقا في أوساط الناس العاديين.

بالنسبة للتحرك بالأسلحة من المدن الشرقية في ليبيا إلى داخل مصر، فإنها تعبر من الطريق الليبي البري الذي أصبح يفتقر للوجود الأمني. وفي الرحلة بالسيارة مع زياد، من منزل سعيد في منطقة المرج (نحو 94 كلم شرق بنغازي)، إلى مدينة إمساعد على بعد نحو 7 كيلومترات من حدود مصر، لم يعد هناك أي بوابات من تلك التي أقامها الثوار الليبيون في بداية الثورة، على مداخل المدن ومخارجها بطول نحو 600 كلم. لا أحد يسأل. وإذا تصادف وجود حارس على بوابة من بوابات المدن الشرقية، فإنه كان يكتفي بقول «هيه.. ما الأخبار.. مع السلامة».

ووصلت سيارة زياد إلى مدينة إمساعد الحدودية. وكانت توجد ثلاث سيارات أخرى تحمل أنواعا مختلفة من الأسلحة الخفيفة. ويوجد طريق إسفلتي وحيد يخترق مدينة إمساعد في اتجاه منفذ السلوم البري على الجانب المصري من الحدود. عند الظهر، التفت السيارات الأربع بعيدا عن هذا الطريق، عبر طريق ترابي يخترق النباتات البرية الداكنة إلى الجنوب الشرقي. ويبلغ طول الحدود المصرية - الليبية من البحر حتى حدود السودان نحو ألف كيلومتر.

ومن هناك، بدت مسارات تشبه الخيوط الملتوية أعلى الهضاب.. تظهر وتختفي حسب المرتفعات والمنخفضات. صحراء وسراب يتراقص في الأفق، ولا يوجد أحد غير مجموعات صغيرة من المهربين الصغار الذين يحملون بضائع على أكتافهم ويقطعون المسافة على أقدامهم، لعبور السلك الشائك إلى داخل الأراضي المصرية.

لكن سيارات الدفع الرباعي المحملة بالأسلحة، تبتعد أكثر ناحية الجنوب الشرقي فوق الهضاب وفي الوديان الوعرة، وتقطع مسافة تتراوح بين 30 و40 كيلومترا بعد مدينة إمساعد. من هنا تتجه إلى فتحة كبيرة في السلك الشائك الذي يفصل بين مصر وليبيا، يطلق عليها المهربون اسم «فتحة بو تحيوة». اجتياز هذه الفتحة، يعني أنك أصبحت داخل مصر، حيث تمتد مسالك ترابية تقود من الجنوب إلى بلدة براني ومنها إلى عمق البلاد، التي تفتقر هي الأخرى للقبضة الأمنية القوية منذ الإطاحة بحكم الرئيس السابق حسني مبارك في يناير (كانون الثاني) الماضي.

ويقول مسؤول في المجلس الانتقالي الليبي، إن الاتحاد الأوروبي ومصر ودول أخرى مجاورة لليبيا، تخشى من خروج الأسلحة من ليبيا إلى منظمات إرهابية وجماعات الجريمة المنظمة في المنطقة. وأقر أجوستينو ميوزو، ممثل الاتحاد الأوروبي في طرابلس، بأن انتشار السلاح بين الليبيين أصبح يشكل خطرا، خاصة أن الحدود الليبية مع جيرانها غير آمنة.

وطلبت مصر من المجلس الانتقالي السيطرة على الشريط الحدودي المشترك لكبح عمليات التهريب المتزايدة، بعد أن أحبطت عشرات من محاولات تهريب الأسلحة، منها صواريخ مضادة للطائرات وقذائف خارقة للمدرعات، إضافة لعشرات الألوف من المقذوفات الخاصة بمختلف أنواع البنادق والمدافع.

ويقول مسؤول عسكري في نيابة مطروح، إن آخر إجراءات الملاحقة لتجار السلاح، أسفرت عن توقيف تاجرين مصريين من مدينة سيدي براني، لمحاكمتهما أمام القضاء العسكري بتهمة تهريب أسلحة وذخيرة، جلباها من مخازن السلاح في ليبيا، وكان من بين ما تم ضبطه معهما مئات من طلقات المدفعية عيار 54 ملليمترا، وألوف من طلقات الكلاشنيكوف، وقذائف صاروخية وأسلحة متنوعة.

إلا أن زياد وتجارا آخرين على جانبي الحدود، يقولون إن كمية ما تم ضبطه من جانب السلطات المصرية لا يزيد على واحد من كل 50 إلى 60 عملية ناجحة. ففي الصحراء الشاسعة على الحدود المصرية الغربية، توجد ثلاثة مواقع لإعادة بيع وشراء الأسلحة القادمة توّا من ليبيا، بالتحديد في جنوب مناطق براني والنجيلة والمثاني. والتجار القادمون للشراء بأسعار جديدة، هم نوعان؛ النوع الأول من تجار الصعيد الذين يقبلون على شراء قطع السلاح الصغيرة والذخيرة في مدن صعيد مصر التي يشتهر سكانها باقتناء السلاح، والنوع الثاني هو من تجار العريش الذين يقبلون على الأسلحة الكبيرة وأسلحة الحروب، مثل صواريخ «سام 7» والـ«آر بي جيه» والقنابل اليدوية والألغام ومناظير الرؤية الليلية. ويتوجه تجار الصعيد والعريش بالشحنة، من الحدود المصرية الغربية، عبر طريق واحد داخل الصحراء بعيدا عن الطريق الإسفلتية (الطريق الدولي الشمالي) الذي أصبح تكثر عليه الأكمنة الأمنية في الفترة الأخيرة. وبعد أن تصل إلى مدينة العلمين من دروب الظهير الصحراوي، تدور السيارات المحملة بالسلاح من نقطة معروفة للمهربين يطلقون عليها اسم «خشم العيش»، في بداية طريق وادي النطرون العلمين، على بعد نحو 20 كلم شرق مطار العلمين، لتمضي عبر دروب لسيارات شركات البترول، من هناك إلى طريق الواحات عند النقطة المواجهة لوادي الحيتان الذي يفصل بين النيل والصحراء الغربية.

ويختار المهربون هذا الطريق الوعر، الذي يصل للصعيد عن طريق الواحات، للابتعاد كلية عن شمال مصر الذي تعترض طرقه الكثير من الكمائن. ومن الصعيد يتم عبور النيل إلى الصحراء الشرقية، ومنها، عبر دروب محافظة البحر الأحمر، شمالا مرة أخرى إلى سيناء، التي يتم فيها إعادة عقد الصفقات مع تجار لصالح جماعات في قطاع غزة، منها حركة حماس وجيش الإسلام الموالي لتنظيم القاعدة.