حلب مدينة تعيش «فوضى مشرعة».. وطبقة التجار وشبيحة النظام يحكمونها

ناشط: المدينة مرشحة للدخول في الثورة في الفترة المقبلة بسبب عدم الرضا الكلي عن الفلتان السائد

تشييع جنازة علاء عرب في عرة بحلب (اوغاريت)
TT

في روايته الشهيرة «حالة شغف» التي صدرت في بيروت قبل عدة سنوات، يروي نهاد سيريس، أحد أبرز الكتاب السوريين، الواقع التقليدي لمدينة حلب، من خلال تتبعه قصة عشق النساء بعضهن لبعض. المدينة التي يصفها بأنها مغلقة على الآخر، وتقليدية جدا من خلال رؤية ميكروسكوبية على مجتمعها من داخله. وعلى الرغم من التنوع العرقي والديني الموجود فيها، فإن حلب، على عكس حماه وغيرها من المدن ذات الغالبية السنية التقليدية، تشكل حالة فريدة بالنسبة للجانب الاجتماعي الذي يستمد تيماته من جغرافية متعددة المصادر، سواء التركي منها، أو حتى العربي أو الأرمني والكردي.

غير أنه بالعودة إلى تاريخ المدينة، تبين أن ما ذهب إليه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، يكاد ينطبق كليا على سلوك النظام السوري مع المدينة منذ بداية أحداث الثورة السورية قبل 6 أشهر من الآن.

والحال أن حلب بقيت المدينة التي لم تصلها لغاية اليوم شرارة الثورة السورية بمعناها الحقيقي الذي شاهدناه في درعا واللاذقية أولا، ثم في حماه وحمص وإدلب والقامشلي وباقي المدن الأخرى والأرياف. وارتسمت علامات استفهام كبرى حول عدم المشاركة القوية بالمظاهرات في حلب، أو على الأقل، بالزخم الذي رأيناه في غيرها. فالمدينة، هي العاصمة الاقتصادية لسوريا، تضم على غرار دمشق أكبر موزاييك طائفي وعرقي أصيل في سوريا.

المدينة الاقتصادية التي يسكنها ثلاثة ملايين نسمة ويتوزع في ريفها ما يوازيهم عددا، لا تزال خارج الحراك الشعبي والجماهيري السوري، ذلك على الرغم من أن السنوات العشر الأخيرة، أظهرت مليا، حجم الفوارق الاقتصادية والمالية بين السكان. فالتجار الحلبيون من السنّة يسيطرون على أهم الثروات الاقتصادية في المدينة ويمتلكون غالبية المصانع الكبرى، ويسيطر الأرمن على الصناعات والحرف اليدوية وغيرها، ويعتبر الأكراد (قرابة مليون كردي بين المدينة والأرياف) الحزام البشري الفقير في المدينة، وأصحاب الأراضي الزراعية إلى الشمال من حلب، خصوصا منطقة عفرين، الشهيرة بزراعة الزيتون، الذي تحول خلال السنوات الأخيرة إلى ما يشبه البترول السوري، حيث تعتبر سوريا ثالث مصدر في العالم لزيت الزيتون ومشتقاته. إلا أن هذا الخليط، إضافة إلى الأقليات الدينية مثل اليهود، والقومية مثل التركمان والشركس، بقي تحت سيطرة النظام، على الأقل لغاية الآن.

والحق أن التعويل الأول الذي كان مبنيا على الثقل الكردي في المدينة، لإشعال الاحتجاجات، ما لبث أن تحول إلى ورقة بيد النظام، خاصة أن حزب العمال الكردستاني، الذي يملك شعبية بين الأكراد، يعتبر من الموالين للنظام حيث يعول قادته، وهم شخصيات كردية لها وزنها وثقلها السياسي في المنطقة الكردية، على مساعدة النظام لهم. لكن وكما في أي حراك سياسي، فإن حزب العمال الكردستاني، كما قال أحد أعضائه لـ«الشرق الأوسط»، يعرف أن النظام السوري «يعيش على حد الشفرة»، لكن الحزب «يعتقد أن فترة استغلال الموقف لصالحه في معاداة تركيا عادت إلى الواجهة حيث ممكن أن يعود النظام لدعم الحزب بالتسليح مرة جديدة لمقارعة تركيا»، وعدم الاكتفاء كما يضيف الشخص نفسه «بدعم المظاهرات التي بدأنا بالتنسيق مع أفرع المخابرات في المدينة في إقامتها لحث النظام في تركيا على إطلاق سراح آبو - وهو الاسم الشهير لعبد الله أوجلان - من السجن التركي».

بيد أن محاولة استمالة الأكراد، من خلال حزب العمال، لا تعني استمالتهم جميعا، حيث هناك أحزاب أخرى تتقاسم النفوذ في مناطق مثل الحسكة والقامشلي وعامودا والمالكية، لا تعتبر في سلة النظام، وتحركاتها في الغالب خارج حلب، أي خارج المدينة التي إن اشتعلت فيها الثورة بشكل جدي، فإنها ستقصم ظهر النظام. ولهذا فإن حلب بكل ما تعني اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، تعتبر بيضة قبان بالنسبة للنظام الذي لا يريد بشتى الطرق أن يخسرها.

لكن والحال هذا، فإن الطريق الذي يتبعه النظام مع حلب حاليا، يشكل علامة فارقة، في قدرته على استخدام المدينة وأوراقها ومفاتيحها بشكل يضمن سكوتها وعدم انخراطها في الحراك الشعبي، على الأقل إن لم يكن ولاءها للنظام.

يقول تاجر صغير في المدينة، قال إن اسمه عبده، إن حلب لم تشهد منذ بداية الأحداث أي تحرك مناهض للنظام أو أي «مظهر من مظاهر الاحتجاج على ما يجري في غيرها من المدن من قتل وتدمير وتنكيل بالبشر»، وإن «التجمعات الوحيدة التي ظهرت في المدينة كانت بغالبيتها موالية للنظام وهي متوترة تظهر فجأة وتختفي فجأة».

يعود تراخي حلب، وخروجها لغاية الآن عن مسار الثورة السورية الشعبية، بحسب هذا الشاب الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى في المدينة «لحالة الاستقرار الاقتصادي والانتعاش المالي النسبي الذي تعيشه المدينة ولا تزال تحافظ عليه لدى الغالبية الساحقة من سكانها، ما يجعل من تردد أصحاب المصالح في حلب عاملا مهما للحفاظ على هذا الاستقرار، لكي لا يخسروا الوضع الآمن الذي يمدهم به النظام نفسه، خاصة أن الثورة من الممكن أن تدخل المدينة في حالة من الفوضى التي لا يستسيغها التجار وأصحاب المنشآت الاقتصادية الكبرى من معامل ومصانع بحيث تشكل خطرا حقيقيا على مكتسباتهم». وعن هذا يقول عبده «إن الحلبيين اختاروا الحياد أو ما يسمى بالحياد السلبي، وموقف المتفرج من أجل الإبقاء على سير هذه المصالح».

لكن حالة الاستقرار هذه التي تعني بالدرجة الأولى، كبار التجار وعموم الطبقة الوسطى، لم تكن لتعني البقية الساحقة من العوام في المدينة وريفها، وهؤلاء، إذ يشكلون حالة عامة، كانت مقموعة في السابق من ممارسة أي نشاط تجاري، أصبحوا اليوم، في الظرف الراهن للمدينة، يشكلون حالة من الفوضى العارمة، خلقها النظام نفسه لإرضائهم والوقوف عند خاطرهم من أجل الترزق. ويقول عبده إن «الفوضى عارمة وإن الباعة الجائلين منتشرون بشكل اعتباطي ومن دون حسيب أو رقيب ومن أراد أن يفترش بضاعته على الرصيف يستطيع أن يفعل ذلك بكل سهولة، في حين أن ذلك كان يعتبر ضربا من ضروب المستحيل في السابق».

ويروي عبده أن الأمن المدني في المدينة شبه غائب «فالشرطة المدنية وشرطة المرور لم تعد تهتم بتطبيق النظام داخل المدينة، ويتم تجاهل المخالفات التي كانت سابقا تقابل بحزم شديد، ومن هذه المظاهر أن الشرطة لم تعد تهتم بالسيارات التي تخالف السلامة العامة والأمن العام مثل السيارات التي تسير بسرعة كبيرة في أماكن لا يسمح فيها بذلك إلى التراخي وغض النظر عن بعض القوانين العامة للسير».

كما أن حالة من الفوضى المقصودة تعيشها المدينة تتعلق بمخالفات البناء، خاصة في العشوائيات «حيث يمكن لأي شخص اليوم أن يشيد بناءه دون رخصة وتحت عين الأمن الساهرة على تطبيق الفوضى وتشريعها لإرضاء كل الناس»، كما يقول عبده الذي يضيف أن «بلدية حلب كانت في السابق لا تغض الطرف عن أية مخالفة من أي نوع». ورغم كل هذه الحالة فإن «الأمن مستتب داخل المدينة ولا يوجد أي مظهر من مظاهر التمرد أو عدم الرضا عما يحصل في المدن الأخرى».

ويشير عبده إلى أن هناك سببا ثانيا لبقاء المظاهرات بعيدة عن حلب، هو أن «النظام يدرك، أو هو أدرك فعليا منذ بداية الاحتجاجات، الثقل الذي تمثله المدينة وما يمكن أن تتسبب به فيما لو كانت قد انخرطت فعليا في الثورة، خصوصا أن التاريخ القريب في المدينة شهد على انتفاضة كردية في عام 2004 فسارع النظام إلى زج عيونه وعسسه وبعض المرتزقة إلى جانب الشبيحة الذين يدينون بالولاء أساسا إلى فواز الأسد وابن أخيه نمير الأسد وعيونهم جميعا في المدينة التي يجري التهامس فيها بأن بين كل ثلاثة أشخاص يمكن أن تراهم في الشارع أحد هؤلاء، الأمر الذي يعني أن حالة الخوف من الاعتقال والتنكيل لا تزال مسيطرة على الشارع الحلبي بغالبيته».

واقع الحال كما يقول هذا الشاب، مسيطر عليه بالكامل من قبل النظام، فحتى بعض المظاهرات أو التجمعات الخجولة التي حصلت «سرعان ما كانت تمتلئ بأعوان النظام فتتحول من مظاهرة معارضة إلى موالية نظرا للزخم الذي يوجد فيه المؤيدون للنظام داخل المدينة». ويضيف «حتى المساجد التي تعيش حركة عادية في أغلب الأحيان هي محاصرة كليا من عناصر النظام بحيث لا يمكن أن يفكر أحد أن يطلق شرارة مظاهرة إذ يعلم أنه سيجر إلى حيث لا يمكن أن يعرف له طريق أو مستقبل». فالشبيحة كما يقول عبده، «أصبحوا جزءا من الحالة العامة، لا يتوانون عن زهق الأرواح والتنكيل بالبشر وآلة بشرية في قمع البشر ذلك أنهم يدينون بالولاء المطلق لآل الأسد، والخوف منهم في حلب حالة عامة ولا تقتصر فقط على التجار وكبار التجار».

تعتبر حالة الفوضى التي تعيشها حلب حالة محصورة ضمن المدينة، التي وإن كانت مظاهر الأمن فيها، مستتبة، بغياب المظاهر المسلحة من قبل الجيش، فإنها موجودة وبكثافة عند مداخل المدينة من الجهات الأربع. ويقول عبده إن الخروج من المدينة «أمر في غاية الصعوبة وكذلك الدخول إليها، فهي شبه محاصرة حيث تخضع مداخلها والممرات الإجبارية إليها لتفتيش دقيق وصارم من قبل أجهزة الأمن وكذلك الجيش الذي يقيم حواجز ثابتة». ويضيف «إن أراد شخص ما الدخول والخروج سيخضع لتفتيش دقيق هو وسيارته ومن معه، هذا عدا عن حالة الرعب التي من الممكن أن تشكلها التقارير والوشايات التي تكتب بأشخاص ويختفون عند هذه الحواجز ولا يعودون أو يعودون بعد فترة اعتقال قد تدوم أياما أو أسابيع أو لا يعودون منها نهائيا».

هذا الحال الذي تعيشه العاصمة الاقتصادية لسوريا، لا يبدو أنه سيتغير في القريب، فبحسب أكثر من مصدر، ممن سألناهم عن الوضع في حلب، إذ أكد أكثر من شخص ما قاله عبده إن لناحية الفوضى التي تعيشها المدينة من الداخل، أو القلق على المصير، أو حتى عدم تكرار تجربة الثمانينات في حماه التي طالت حلب أيضا بحكم الوجود السني الكثيف فيها.

لكن مع ذلك، فإن أحد الناشطين في المدينة، قال رافضا ذكر اسمه، بأن «المدينة مرشحة للدخول في الثورة في الفترة المقبلة، بسبب عدم الرضا الكلي من قبل سكانها عما يحصل من جهة في غيرها من المدن وعما يحصل داخلها من تشريع للفوضى، قد تشكل في القادم من الأيام مسارا عكسيا ضد النظام الذي يسعى من خلال تشريعها لإرضاء بعض الطبقات المهمشة ولإرضاء كبار التجار الذين تربطهم مصالح كبرى بالداخل السوري من جهة، وبتركيا التي تعتبر الطريق الوحيد لهم بعدما سدت العقوبات الدولية غالبية المنافذ الأخرى».