المسيحيون بعد «تحول» بكركي.. أمام تحديات جديدة

الجراح لـ«الشرق الأوسط»: المواقف ليست معادية للأمة الإسلامية

البطريرك الراعي
TT

أثار التحول التاريخي الذي طرأ على مواقف البطريركية المارونية في الفترة الأخيرة، موجة من الأسئلة الكبيرة عن دور المسيحيين في الشرق، والتحديات التي تواجههم في ظل الثورات العربية. وفيما يذهب بعض المراقبين إلى اعتبار موقف بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق مار بشارة بطرس الراعي في باريس «نقطة تحول في مسار المسيحيين السياسي، بانتقالهم من المطالبة بالحقوق في الوطن، إلى الدور فيه»، لجهة الحديث عن سلاح حزب الله، يرجّح آخرون أن تخلق تلك المواقف تحديات أخرى بالنسبة للمسيحيين، تتمثل في معاداة «الأمة الإسلامية العربية الداعمة للتحركات السورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد». بالإضافة إلى ذلك، لا تنسجم مواقف البطريرك بشأن سلاح حزب الله مع أدبيات قوى 14 آذار، مما خلق له تحديات داخلية، على مستوى مسيحيي قوى 14 آذار، ومستوى المجتمع الدولي.

غير أن عضو كتلة المستقبل النيابية، النائب جمال الجراح، لا يرى أن تحرك البطريرك الأخير سيكون له «تداعيات على مستوى العلاقات مع الأمة الإسلامية في العالم العربي»، موضحا في اتصال مع «الشرق الأوسط» أن تلك المواقف «لن تكون معادية لأحد»، حاصرا إياها «بالتعبير عن بعض الهواجس، سواء أكانت حقيقية أم لا».

تاريخيا، يعتبر المسيحيون أن لبنان لطالما كان «ملاذا آمنا للمضطهدين». ويؤكد المنظر السياسي والقانوني اللبناني ميشال شيحا على هذا الدور في كتاباته، معتبرا أن «لبنان بلد فريد وملجأ للأقليات المضطهدة». واستنادا إلى هذا المبدأ، نشأت السياسة اللبنانية منذ تأسيس الكيان على الدور المؤثر للبطريركية في معادلة الصيغة اللبنانية، بصفتها ممثلة للمسيحيين في الشرق. وبالتالي، تنسجم المواقف الأخيرة للبطريرك الراعي مع دور البطريكية التاريخي لحماية المسيحيين في العالم العربي. وتتخذ البطريكية في كل مرة موقفا وطنيا تاريخيا يشكل مفترقا سياسيا في المنطقة.

غير أن التحديات التي تواجه المسيحيين في هذه الظروف، تتمثل في القلق الوجودي على مسيحيي الشرق، والخوف من أن تقود الأحداث في سوريا إلى حرب أهلية بين السنة والعلويين تنتقل إلى لبنان، بالإضافة إلى الخوف من أن تصل جهات أصولية إلى السلطة في حال سقوط النظام السوري، ويهجر المسيحيون منها كما حصل في العراق.. بالإضافة إلى الخوف من قيام دولة يهودية نتيجة الإصرار الغربي على قيامها، فيستكمل المشروع بقيام دويلات في العالم العربي. ويعتبر الوزير الأسبق ألبير منصور أن التحدي الأخير «هو الجوهري، ويمثل الخطر الأكبر، فيما يمكن معالجة التحديات الأخرى إذا ما فشل مشروع قيام دولة يهودية في إسرائيل».

المدافعون عن هواجس البطريرك يستندون إلى الوقائع التي طرأت على مسيحيي العراق بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع صدام حسين، حيث أسفرت العمليات الإرهابية عن تهجير قسري لنحو 750 ألف عراقي من بلدهم، يشكلون نصف عدد المسيحيين العراقيين «رغم أنهم لطالما كانوا محايدين في الصراعات السياسية الداخلية، وكانوا مواطنين عاديين غير معنيين بالصراعات الفعلية»، كما يقول الوزير الأسبق ألبر منصور، مشيرا في حديث إلى «الشرق الأوسط» إلى أن «ذلك التهجير المجاني الذي تعرض له مسيحيو العراق، من غير مبرر، طرح قلقا كبيرا على دور المسيحيين في الشرق ووجودهم في العالم العربي».

ويضيف: «أعتقد أن ملاحظات البطريرك حول هذا الموضوع، تعبر عن القلق، ولم أرَ في الموقف انحيازا مع الانتماءات الدينية في العالم العربي أو ضدها»، لافتا إلى أن الموقف «يندرج ضمن إطار التعبير عن القلق للفت نظر من يعتقد أنهم يساهمون في تحريك الأمور أو استيعاب التحركات العربية لخطورة الواقع».

ويرى منصور أن مواجهة التحديات تتمثل في «الانخراط في الصراع من موقع العروبة الذي يحميهم، بغية النضال لبناء دولة وطنية مدنية في العالم العربي تقوم على مبدأ الحريات والديمقراطية»، مشددا على «رفض أي دولة لأي طائفة أو مذهب، وفي المقدمة رفض الدولة اليهودية».

ويوضح منصور أن رفض الراعي لتلك الكيانات الفئوية في العالم العربي يستند إلى رؤيته بأن «إسرائيل الدولة العنصرية الأقوى في المنطقة، لما تمتاز به من تطور صناعي وتكنولوجي، كما أنها تحظى باستقرار سياسي ودعم غربي، وتستفيد من صراعات الآخرين».

وإذ يشير منصور إلى أن هواجس الراعي تعود إلى «محاولة تفريغ المنطقة من عروبتها وتشجيع الكيانات المذهبية»، أكد أن المسيحيين «لا يعيشون هاجس الهجرة النهائية من الشرق، إذ يحاولون ابتداع وسائل دفاع عن النفس لاستمرارهم في المنطقة، أساسها المواجهات الفكرية والدفاع السياسي عن العروبة كونها ضمانة لرفض دولة اليهود»، مشددا على أن الراعي «أكد على رفض الدولة اليهودية». ومن المؤكد أن موقف الراعي بخصوص الوضع السوري أثار موجة من الاستنكار في العالم العربي لجهة دعم نظام الأسد، بيد أن منصور يعتبر أن المواجهة مع الراعي على خلفية مواقفه «هي افتعال لمشكلة، ومن المؤكد أنه لم يقصد مواجهة مع أحد»، مشددا على أن مواقفه «ليس معادية لأحد، ولا يمكن وصفها بأنها تندرج ضمن تطلعات المحور السوري - الإيراني أو الدفاع عنه، بل تعبر عن قلق حقيقي تجاه المسيحيين في الشرق». وقال: «لا أعتقد أن الردود التي أتت على الراعي نتيجة لحديثه عن الوضع السوري، لأن الجميع متفق على الهواجس، لكن الحملة قامت نتيجة حديثه عن سلاح حزب الله»، موضحا أن «هذا الموقف غير منسجم مع أدبيات 14 آذار، ويرى أن المقاومة نتيجة للاحتلال، وليست سببا له»، مشددا على أن البطريرك «مدافع بالمطلق عن العيش المشترك، ولا عداء له تجاه أحد، وقد أكد لي هذا الواقع في حديث معه أثناء زيارته إلى بعلبك قبل أسبوعين».

دفاع البطريركية عن العيش المشترك، لا يختلف عليه اثنان. لكن ملاحظات كثيرة تتصدر التعبير عن هواجس المسيحيين وتحدياتهم، أبرزها الحديث عن أنهم أقلية في الشرق. ويعرب النائب جمال الجراح في اتصال مع «الشرق الأوسط»، عن رفضه للاستنتاجات التي التصقت بالحديث عن الهواجس. ويوضح أن «البطريركية لطالما كانت عنوان الحرية والسيادة والاستقلال والعيش المشترك، ونرفض القول إن المسيحيين أقلية في الشرق تستوجب الحماية، لأنهم مكون أساسي في لبنان، وهم حماة الحرية والديمقراطية والعيش المشترك وأساس التكوين الحضاري في لبنان». ويضيف: «المسيحيون اليوم، هم أكثرية بالمعنى السياسي والوجودي، ولناحية الانفتاح والدور والتواصل مع الآخرين والحفاظ على المبادئ الديمقراطية وحماية الحريات، بغض النظر عن العدد»، مشددا على أن الحديث عن أنهم أقلية «يناقض الواقع».

ويقول: «لا أعتقد أن استجلاب الحماية اليوم قرار صائب، خصوصا من النظام السوري الذي قتل واغتال وسجن وهجر قادة القوى المسيحية خلال الحرب اللبنانية»، مؤكدا أن «من ظلمك بالأمس، وألغاك، لا يمكن أن يوفر لك الحماية». ويتساءل الجراح: «ماذا تغير لنقول إن بقاء النظام السوري يحمي الأقليات أو يحمي المسيحيين؟» مشددا على أن المسيحيين «يحمون الآخرين، وبغير حاجة لمن يحميهم، استنادا إلى المحطات التاريخية التي حموا خلالها لبنان، ورفعوا لواء الحرية ضد الظالمين والمستبدين».

وإذ يتساءل «كيف يكون المسيحي مهددا وأقليا في وطن يعتبر رسالة»، يؤكد أن «العدو الأوحد للمسيحيين هو النظام السوري الذي خاضوا ضده الحروب حفاظا على المسلمات الوطنية»، رافضا أن تكون تجربة العراق سببا لاستجلاب الحماية من السوري. ويقول: «تجربة العراق مختلفة، فالسوريون هم المسبب الأول لهجرة المسيحيين من العراق، عبر إرسال الجماعات الإرهابية إليه، واحتضان الأصولية التي صدّروها إلى العراق ولبنان تحت اسم (فتح الإسلام)، بالإضافة إلى أنهم كانوا رعاة التطرف في العراق، وممر الأصوليات إليه، كونها كانت إحدى الأوراق المهمة في المنطقة التي فاوض عليها السوري».

وبينما يرفض الجراح التنبؤ ببذور تحالفات جديدة في لبنان تلغي التحالفات الماضية، على قاعدة أن «لبنان لا يحميه إلا تحالف وطني جامع»، و«المسيحيون هم الطائفة المهيئة لجمع الشمل في ظل الانقسام العامودي في البلد»، يتجه آخرون إلى اعتبار مواقف البطريرك الأخيرة «استكمالا لصيغة عام 1943، التي شهدت التحالف السني - الماروني، وتبشر بإيجاد بذور تحالف شيعي - ماروني يغير المسار التاريخي، استنادا إلى دور البطريركية المؤثر في معادلة الصيغة اللبنانية».

ويشرح الباحث في القانون الدستوري علي حسون لـ«الشرق الأوسط» أن «الطائفة المارونية انتقلت من مقولة المطالبة بالحقوق التاريخية إلى الدور الفعال في المشاركة الوطنية والتلاقي، انطلاقا من انفتاح البطريركية على سائر الأفرقاء اللبنانيين».

ويعود حسون إلى موقف البطريرك أنطوان عريضة في عام 1941 الذي أرسى ملامح ميثاق العام 1943، إذ أكد يومها أن «الصرح البطريركي ليس وقفا على الطائفة المارونية فحسب، بل هو بيت جميع اللبنانيين، وفق المصلحة اللبنانية، لا فرق فيها بين طائفة وأخرى»، مشددا على «أننا نريد استقلالا مبنيا على التآلف والتضامن والغيرة في سبيل المصلحة الوطنية». ويضيف حسون: «اليوم، وبعد تحرك البطريركية في دور سياسي وطني فعال، يكرس المسيحيون نظرة البابا مار يوحنا بولس الثاني الذي اعتبر لبنان رسالة ومركز تفاعل بين الأديان، ونموذجا للعيش المشترك في الشرق»، لافتا إلى أن «هذا النداء البابوي، يتجسد سلوكا ومنهجا للبطريركية». واللافت بحسب حسون، أن الاستقبال الذي حظي به البطريرك الراعي في الجنوب، «يبشّر بصيغة تفاهم شيعية مارونية ظهر دخانها الأبيض في ختام زيارته إلى الجنوب في دارة الرئيس نبيه بري. ومن شأن هذا الدور الانفتاحي أن يعزز دور المسيحيين في الشرق، ويساهم في تذليل هواجسهم لناحية القلق الوجودي». وكان نداء المطارنة الموارنة شدد على أن «الوجود المسيحي لا يمكنه أن يستثمر إلا من خلال انفتاح الأديان على بعضها البعض وخدمة الإنسان والدفاع عن حقوقه وبناء مجتمعنا على القيم الإنسانية المشتركة كالحرية والعدل والمساواة وكرامة الإنسان». مواقف البطريركية، من دون شك، أثارت حفيظة مسيحيي قوى الرابع عشر من آذار. وأشار عضو كتلة الكتائب اللبنانية النائب ايلي ماروني إلى أنه «حتى الآن لم نفهم بالتفاصيل الانقلاب بمواقف بكركي، وربط مصير المسيحيين بلبنان والشرق بشخص واحد». وقال تعليقا على زيارة الوفد السوري إلى بكركي إن هذه الزيارة هي «أقل ما يقوم به السوريون لشكر البطريرك الماروني بعد هذا الموقف - الهدية في هذا الوقت العصيب من تاريخها».