وثائق جديدة تؤكد أن أجهزة الأمن الإسرائيلية قتلت الكثير من الأسرى الفلسطينيين والعرب

شامير أعطى الأوامر وبيريس غطى على القتلة.. وهرتسوغ أصدر عفوا قبل المحاكمة

TT

كشفت وثائق سرية في إسرائيل، الليلة قبل الماضية، تفاصيل فضيحة قتل أسيرين فلسطينيين في سنة 1984 بأيدي رجال «الشاباك» (جهاز المخابرات الإسرائيلية العامة)، تورط فيها رئيسان سابقان للحكومة الإسرائيلية، هما إسحاق شامير من الليكود، وشيمعون بيريس من حزب العمل، الذي أصبح اليوم رئيسا للدولة. وبرز في فيلم بثته «القناة العاشرة» للتلفزيون الإسرائيلي (تجارية مستقلة)، تصريح مذهل لمسؤولة كبيرة في النيابة العامة، دوريت بنيش، رئيسة محكمة العدل العليا قالت فيه: «لا يوجد أي ضمان بأن مثل هذه الحادثة (قتل أسرى فلسطينيين وعرب بعد ضبطهم أحياء)، لم تقع في الماضي قبل هذه القصة أو لن تقع في المستقبل».

وقالت بنيش في تصريحها، الذي يبث لأول مرة في ذلك الفيلم: «لقد كشفت هذه الفضيحة، كم هي جبارة قوة الشاباك. وكم كان مستعدا هذا الجهاز لاستغلال قوته. لقد ثبت لنا أن خطر هذا الجهاز لا يقتصر على العرب الأسرى، إنما يطال كل واحد فينا نحن المواطنين الإسرائيليين».

وأتيح بث الفيلم، في أعقاب التماس تقدم به الصحافي جيدي فايتس معد هذا الفيلم الوثائقي، ومخرجه لاري زيني، ومنتجه موش دنون، أجازت المحكمة على أساسه الإفراج عن 3 ملفات توثق ما عرف في حينه بقضية «باص 300»، بقيت سرا دفينا في «أرشيف الدولة» مدة 25 عاما. وتعود القصة إلى يوم 12 أبريل (نيسان) 1984، في عز الحرب الإسرائيلية في لبنان. آنذاك حاول الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة مساندة الأشقاء في لبنان بعمليات ضد الجيش الإسرائيلي في المناطق المحتلة وقام تنظيم «اهراب يهودي» بين المستوطنين ينفذ عمليات إرهاب ضد الفلسطينيين.

في ذلك اليوم، أقدم 4 شبان فلسطينيين صغار من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على خطف حافلة ركاب عمومية إسرائيلية تعمل على الخط 300، من الشمال إلى الجنوب. وقادوا الحافلة حتى قطاع غزة، قرب دير البلح. وهناك أجبرت القوات الإسرائيلية الحافلة على الوقوف. وأجرى رئيس الدائرة العربية في الشاباك، نحمان طال، مفاوضات مع قائد العملية حول طلباتهم وخرج بانطباع أن هؤلاء شبان صغار لا يعرفون ما الذي يريدونه. وهم لا يشكلون أي خطر على إسرائيل، وبالإمكان هزمهم بسهولة، كما قال في هذا الفيلم. ثم توجه طال إلى رئيس جهاز الشاباك، أبراهام شالوم، وأبلغه بموقفه.

ووصل إلى مكان العملية وزير الدفاع، موشيه إرينز، وقائد الأركان موشيه ليفي، ورئيس الشاباك، أبراهام شالوم، والعميد يتسحاق مردخاي قائد وحدة المظليات. وفي الساعة الرابعة والنصف فجرا شنت وحدة قيادة الأركان هجوما على الباص، وقتلت اثنين من الخاطفين، وألقت القبض على اثنين آخرين وقتلت خلال العملية المجندة إيريت بورتوغاز التي كانت على متن الحافلة. ويواصل رؤوبين حزاك، نائب رئيس الشاباك، أن رجلين من «الشاباك» أنزلا الفدائيين على قيد الحياة من الحافلة، وقام مصورو وسائل الإعلام بالتقاط صور لهما، إلا أن أحد رجال «الشاباك» توجه إلى مصور جريدة «حداشوت»، في حينه، أليكس ليباك وطلب منه أن يعطيه الفيلم الأصلي، إلا أن ليباك أعطاه فيلما آخر.

العميد يتسحاق مردخاي كان أول من حقق مع الخاطفين، وهما صبحي أبو جامع وابن عمه مجدي. كان يريد التأكد من عدم تفخيخ الباص. وكوسيلة ضغط ضرب الخاطفين بكعب مسدسه. وبعد انتهاء التحقيق أخذهما رجال «الشاباك» لـ«تحقيق إضافي» إلى داخل حقل الحنطة المقابل، حيث ضربوهما ضربا مبرحا. وكان من بين الذين شاركوا في الضرب رئيس «الشاباك» شالوم نفسه، الذي أصدر قبل مغادرته أمرا بقتلهما لداني ياتوم، الذي كان رئيس وحدة العمليات في حينه. ياتوم أذعن دون تردد للأمر غير القانوني، الذي تلقاه من رئيسه، ونقل الأمر إلى عناصره الذين وضعوا الخاطفين في مركبة تجارية بعد أن عصبوا عيونهما، وقاموا بنقلهما إلى مكان معزول، حيث قام ياتوم ورجاله هناك بضربهما بالحجارة وقضبان الحديد حتى الموت.

الصور، كما أشرنا، خلدت واقع أن الأسيرين ضبطا وهما على قيد الحياة. نحمان طال يقول: إنه كان قد أخبر شالوم بأن هناك صورا، قبل أن يتم إعدام الشابين. لكن شالوم تجاهل الموضوع. وبعد يومين فقط فهم شالوم أن الصور تورطه فاستدعى طال طالبا مساعدته لدى الصحافيين حتى لا ينشروها. إلا أن الصحافة لم ترضخ ونشرت الصور. وثارت ضجة كبيرة في وسائل الإعلام العالمية والمحلية.

ويتضح في الفيلم أن شالوم راح يدافع عن نفسه ويقول إنه قتل الأسيرين بناء على أوامر واضحة من رئيس الحكومة شامير. وعندما سئل شامير قال إن الأمر صدر عن وزير الدفاع، إرينز. وعندما أبلغوا إرينز بما قاله شامير، غضب جدا وأمر بتشكيل لجنة تحقيق برئاسة الجنرال احتياط، مئير زوريع. وحاول شامير إلغاء اللجنة، لكن المستشار القضائي للحكومة، يسرائيل زمير، رفض، وأصر على اللجنة. فأقالته الحكومة وقررت استبداله بمستشار آخر هو يوسي حريش. إلا أن حريش أيضا رفض التنازل عن اللجنة. ومارس عليه شامير ضغوطا شديدة لكي يلغيها. وهكذا بدأت اللجنة عملها، وسط سرية تامة.

هنا، تدخل شالوم بضم أحد كبار ضباطه إلى اللجنة هو يوسي غينوسار، الذي أصبح فيما بعد مفاوضا أساسيا مع الفلسطينيين، ثم أقام علاقات تجارية مع التجار الفلسطينيين وترك عمله في الجهاز. وراح عينوسار يجتمع كل ليلة مع شالوم ينسق معه بشأن الأشخاص الذين سيمثلون أمام اللجنة، وكيف يضللونها حتى يخرج ضباط الشاباك أبرياء.

على سبيل المثال، في أبريل 1984 وقف داني ياتوم، وهو رئيس وحدة العمليات الأصغر في تاريخ الجهاز، أمام لجنة زوريع وسرد شهادته الكاذبة قائلا: إن جمهورا غاضبا جاء إلى حقل الحنطة حيث أخذ الخاطفان وأحاط بهما وأخذ يضربهما ويقذفهما بالحجارة، وأنه لم ير رجالا من «الشاباك» يقومون بالضرب. ولكنه رأى كيف أن العميد مردخاي، قام بضربهما بمسدسه، وأنه أدخلهما إلى سيارته بهدف نقلهما إلى التحقيق إلا أنهما كانا ينزفان، فأخذهما إلى المستشفى حيث تقررت وفاتهما هناك، كما قال.

مسلسل الشهادات الكاذبة، ترك متهما وحيدا هو العميد مردخاي، الذي سيحتاج لاحقا إلى وقت طويل لإثبات براءته من عملية القتل، التي حاول الشاباك توريطه فيها لدرء التهمة عن رجاله. «الشاباك» تجاوز لجنة زوريع بسلام واللجنة، ووجدت متهما واحدا هو العميد مردخاي، إلا أن الانتخابات داهمت رجال «الشاباك» الذين تخوفوا من تغيير رئيس الحكومة، وهو المسؤول المباشر عن «الشاباك»، خاصة أن الاستطلاعات كانت تميل لصالح بيريس. وعن ذلك يقول رئيس «الشاباك» في إحدى محادثاته مع حزاك، «نعرف أن شامير إرهابي حتى العظم، في موضوع الباص ساندنا وسيساندنا على طول الخط، بالمقابل بيريس متردد، ولا يستطيع أن يقرر، ولا يثق بأحد، ويفعل فقط ما هو لمصلحته. يجب أن لا يصل بيريس إلى الحكم». ولكن نتائج الانتخابات دلت على مساواة في قوة حزب شامير (الليكود) وبيريس (العمل)، فتشكلت حكومة ائتلافية برئاسة بيريس، وشغل شامير فيها منصب وزير الخارجية، وأوصى بيريس بشالوم خيرا والأخير صان الوصية. وفي عام 1985 قدمت لجنة زوريع توصياتها، وقدم العميد مردخاي إلى لجنة الطاعة وتمت تبرئته، في حين قدم 5 من رجال «الشاباك» للجنة طاعة داخلية.

على طول الطريق في هذه الفضيحة، حاول 3 ضباط من الشاباك، هم حزاك ورافي مالكا وبيلغ رادي، وضع النقاط على الحروف ومعالجة القضية بشكل جذري لمصلحة جهاز الشاباك! فطلبوا من شالوم أن يستقيل ليغلق الملف، لكنه رفض. فأبلغوه أنهم لن يسكتوا، فقرر معاقبتهم وفصلهم من العمل في الجهاز. وقد احتجوا لدى شيمعون بيريس، رئيس الحكومة، فاتهمهم هذا بأنهم ينفذون انقلابا على رئيسهم. ولكنهم صمدوا وواصلوا جهودهم، فطردوهم من الشاباك.

وأنهت الحكومة هذه الفضيحة بصفقة مشينة، إذ تقررت محاكمة 11 ضابطا في الشاباك. ولكنهم لم يحاكموا على قتل الأسيرين، الذي يبلغ الحكم فيها السجن المؤبد عن كل قتيل، بل حوكموا على «عدم ضمان بقاء الأسيرين على قيد الحياة». والأنكى من ذلك هو أن رئيس الدولة آنذاك، حايم هرتسوغ، منحهم العفو العام قبل المحاكمة. وهكذا أقفل الملف.

ويصف الفيلم كيف صادقت الحكومة على الصفقة، فيقول إن بيريس دعا المجلس الوزاري المصغر إلى الانعقاد في مكتبه بشكل مهرول في الساعة السادسة صباحا، حتى أن بعض الوزراء حسبوا أن حربا قد نشبت. وتقرر العفو بأكثرية ساحقة. فاستقال شالوم فيما حصل القاتل الأساسي، إيهود ياتوم، على ترقية.

والسؤال الذي يطرحه الفيلم هو: هل انتهت هذه الأساليب الإجرامية في الشاباك؟ وبقي السؤال مفتوحا بلا جواب.