الحياة السياسية الروسية ليست بوتين والكرملين

شباب يحاولون الاندفاع نحو المستقبل ولكن الماضي يعوقهم

يوغور بيكوف يعالج مدمني المخدرات عن طريق الصلاة والصوم (واشنطن بوست)
TT

إن السلطات في موسكو مغرمة بالإشارة إلى أنه ليس هناك سوى النخبة المدللة في العاصمة الروسية التي تشكو باستمرار من تأكل الحريات وسيطرة السلطات على العملية الانتخابية والكآبة التي تسيطر على المشهد السياسي، والتي يشبهونها بتلك التي كانت موجودة في آخر أيام الاتحاد السوفياتي.

وفي مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي قال ديمتري بيسكوف، وهو المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء فلاديمير بوتين: «هناك من يعتقد بأن الأجواء السائدة في البلاد هي أجواء خانقة، في الوقت الذي يريد فيه آخرون خصم ثلاث نقاط مئوية من الضرائب المفروضة عليهم حتى يستطيعوا الاستمرار في أعمالهم».

ومن المفترض أن يعمل هؤلاء الآخرون بجد في أماكن مثل نيجني تاغيل، وهي مدينة صناعية يقطنها نحو 360.000 شخص في الجانب الشرقي من جبال الأورال، حيث يحتشد الناس للتعبير عن غضبهم من ارتفاع أسعار الغاز، وليس من المناورات السياسية التي تحدث في موسكو. في الواقع هم أشخاص عمليون، ولكن لديهم أحلامهم التي يريدون تحقيقها. وخلال الصيف الماضي بدأ يوغور بيكوف، وهو شخص يبلغ من العمر 24 عاما ولم يكمل تعليمه في المدرسة الثانوية، السعي وراء تحقيق حلمه. وفي شهر يوليو (تموز) الماضي وجّه الملياردير ميخائيل بروخوروف، صاحب نادي نيو جيرسي نتس لكرة السلة، الدعوة إلى بيكوف للقائه في العاصمة الروسية موسكو. وجلس الرجلان في أحد المكاتب بالقرب من مهبط للمروحيات يشربان القهوة ويتحدثان في السياسة.

وكان بروخوروف، بمباركة من الكرملين، يحاول إنشاء حزب يسمى «القضية العادلة»، وتوفير مقر سياسي للناخبين الليبراليين. ومع ذلك قام بروخوروف بمغامرة تتعدى الشعارات التي كان يتبناها الكرملين من خلال قضاء كثير من الوقت في تقييم ودراسة الأبطال المحليين من أمثال بيكوف الذي كان يدير مركزا لمكافحة المخدرات. وفي شهر أغسطس (آب) طلب بروخوروف من بيكوف أن ينضم إلى لائحة الحزب لمجلس الدوما، المجلس الأدنى في البرلمان الروسي، خلال شهر ديسمبر (كانون الأول). ورأى بيكوف أن ذلك سيمكنه من البدء في تغيير هذا البلد الضخم. وقال بيكوف: «بروخوروف رجل وطني. إنه يعيش في روسيا ويريد أن يفعل شيئا ليجعل هذا البلد في حال أفضل». وبعد شهر انتهت الحياة السياسية لبروخوروف، التي كان قد بدأها في شهر يونيو (حزيران) بسبب المكائد التي دبرها الكرملين. وعاد بروخوروف إلى عمله وقال العامة إن ذلك يعكس رفض السلطات لأي استقلال سياسي. ومع ذلك لا يزال بيكوف لديه الكثير من التطلعات الجديدة. وعندما كان بيكوف في الخامسة عشرة من عمره ترك المدرسة وتوجه إلى مدينة سورغوت التي تشتهر بصناعة النفط والغاز، على بعد أكثر من 500 ميل في سيبيريا. وكان بيكوف يقوم بأعمال غريبة هناك لمدة عامين. وبعد عودته انتهى به الأمر إلى إدارة فرع مؤسسة «مدينة دون مخدرات» التي أنشأها يفيغيني رويزمان، الذي أصبح حليفا سياسيا لبروخوروف. وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تلقى بيكوف حكما بالسجن لمدة ثلاث سنوات ونصف بتهمة اختطاف مدمني المخدرات. وقد أثارت هذه الأنباء غضبا شعبيا عارما. وكان مركز السموم الذي يديره بيكوف يقوم بمعالجة المدمنين عن طريق الصلاة والصوم. وقال السكان إنه قد يكون مضللا، ولكن منذ متى تهتم الشرطة بمدمني الهيروين؟ لا بد من وجود سبب آخر وراء ذلك. وأمر الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف بدراسة القضية. وحتى رجل جهاز المخابرات الروسي (كي جي بي) السابق فيكتور إيفانوف تعاطف مع بيكوف في تلك القضية. وقد تم تعليق الحكم الصادر بحق بيكوف وخرج من السجن وهو شخص مختلف، حيث قال: «لقد أدركت أنني بلا مستقبل وبلا تعليم وبلا سيارة وبلا شقة، كل ما أمتلكه هو سوابق جنائية وديون تصل إلى 10.000 دولار». وبعد عام من إطلاق سراحه أوشك بيكوف على الحصول على شهادة الثانوية العامة ويريد دخول الجامعة ودراسة القانون. ويعمل حاليا في كتابة عمود في صحيفة «تاغيل فارينت» المستقلة. أما في ما يتعلق بالناحية السياسية فيقول إنه قادر على أن يجعل الحكومة تقوم بما يتعين عليها القيام به مثل علاج مدمني المخدرات.

وقال بيكوف إن صحيفته الجنائية لن تعوقه، وقال: «السجون هنا أكثر من المسارح. هنا دارا عرض ومسرحان في مقابل ستة سجون».

ومثلها مثل الكثير من المدن الروسية، تحاول مدينة نيجني تاغيل الاندفاع نحو المستقبل، ولكن الماضي يعوقها عن القيام بذلك، حيث توجد دوامات من الأدخنة الصفراء والرمادية فوق المدينة، ناتجة عن مصانع المعادن التي تعود للحقبة السوفياتية. ولا تزال هذه المصانع تمثل عصب الاقتصاد المحلي.

إنها ليست موسكو، على حد قول بيسكوف، التي يجلس فيها الناس في المطاعم الراقية ويتناولون وجبات إيطالية تبلغ قيمة الواحدة منها 35 دولارا ويعربون عن قلقهم بشأن مصير البلاد. ويحاول موظفو جريدة «تاغيل فارينت» إصدار صحيفة بسيطة وغير مزخرفة، ولكن رئيس خدمة الصحافة بإدارة المدينة قام بزيارة مدير تحرير الجريدة وقال: «من فضلكم، لا نريد سريالية، ولا توجد حرية في التعبير».

وفي شارع كارل ماركس تقف سيدة مسنة لتبيع قبعات من الفراء وقفازات صوفية، أما في خارج المدينة فتذهب ويلينا بارابادز، وهي سيدة في الخمسين من عمرها، إلى أحد المتاجر لشراء الخبز، معربة عن استيائها من الطريقة التي تسيطر بها السلطات على العملية الانتخابية. وقالت بارابادز إن الأمور ستتغير في نهاية المطاف، ولكن قد لا يرى جيلها ذلك. ويمكن لبيكوف أن ينتظر الانتخابات الدوما القادمة التي ستجري في غضون خمسة أعوام، وعندها سيكون قد حصل على درجة جامعية وسيكون في التاسعة والعشرين من عمره.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»