برلسكوني يتراجع.. لكنه لا يسقط

مناوئون يهزمونه عبر التصويت بالبرلمان ثم يفشلون في تشكيل بديل لحكومته

TT

على مدار 18 عاما هيمن خلالها على السياسة الإيطالية، خلق رئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني حالة من الوهم بأنه أقام نظاما صلبا من حزبين. بيد أن شمس تحالف برلسكوني أوشكت على الأفول عندما تفككت عرى تحالفه كاشفة عن الفوضى، المتمثل في البرلمان الإيطالي.

فقد شهد يوم الثلاثاء تدني شعبية حكومة برلسكوني إلى أدنى مستوى لها عندما فشلت في الحصول على الأغلبية في تصويت فني في مراجعة ميزانية العام الماضي. بدت الحكومة مضطربة، وترك برلسكوني البرلمان دون أن يدلي بحديث علني، في الوقت الذي طالبه فيه أعضاء من المعارضة بالاستقالة.

ولم يتضح بعد ما إذا كان هذا الغضب مؤشرا على تراجع حكومة برلسكوني، أم إنه مجرد مسمار آخر في نعش الحقبة السياسية التي ينظر إليها على نطاق واسع بأنها موشكة على الأفول؛ من قبل الإيطاليين، إن لم يكن من قبل السياسيين الذين يتدافعون بيأس للبقاء في السلطة.

اليوم، يتشابه المشهد السياسي الإيطالي، مع المشهد البيزنطي ذاته كما يذكر تاريخ ما بعد الحروب، عندما تتدافع العشرات من الفصائل عبر المشهد السياسي لتكوين تحالفات قوية لإسقاط برلسكوني، والاحتفاظ بمقاعدهم. لكن هذه ليست عملية سهلة.

ومؤخرا، توجه السواد الأعظم من الهياج السياسي لا إلى الاقتصاد أو الميزانية؛ بل إلى تغيير القانون الانتخابي لتثبيط الأغلبية البرلمانية الضعيفة مثل تلك الخاصة ببرلسكوني. وحتى مع تحالف يمين الوسط المنقسم، يبدي كثير من أعضاء البرلمان غضبا منه ويعتبرونه عبئا متزايدا على الاقتصاد الإيطالي ومتوقفا على الساحة الدولية، لكن لم يظهر أي حزب قدرة تنظيمية أو عددية على تشكيل حكومة قادرة بديلة.

ويقول ستيفانو فولي، المعلق السياسي بصحيفة الأعمال اليومية «إل سولي 24 أوري»: «إنهم محبطون وغاضبون منه، لكنهم يكنون شعورا مختلطا من الحب تجاهه، فهم غير قادرين على تحرير أنفسهم من الوحش.. إنها حالة نفسية».

بعد اليونان، جاء الدور على إيطاليا، مع تضخم الدين وانخفاض النمو المتوقع إلى صفر، الذي يهدد بالعجز عن سداد الديون إذا فشل القادة الأوروبيون في الخروج بخطة سريعة لإنقاذ اليورو. لكن ما دام أن فترة غسق لحكومة برلسكوني طويلة، فإن الانقسام بين الحقيقة الاقتصادية الخارجية والمناورة السياسية الداخلية لم يكن واسعا.

وكانت وكالة «موديز» قد خفضت التصنيف الائتماني لإيطاليا، إلى جانب العديد من الحكومات الإقليمية وثلاث من أضخم شركات الرقائق في العالم هي «إيني» و«إنيل» و«فين ميكانيكا» التي زادت بشكل كبير من تكاليف اقتراضها.

ويأمل المستثمرون الأجانب ومجتمع الأعمال الإيطالي - وعلى الأقل أحد قادة يسار الوسط والتر فلتروني - في تشكيل حكومة من التكنوقراط يقودها رجل غير سياسي قادر على تنفيذ تغيرات اقتصادية بنيوية غير محبوبة اشترطها البنك المركزي الأوروبي في أغسطس (آب) في مقابل شراء الدين الإيطالي، الذي لن يقلق بشأن خسارة الانتخابات المقبلة.

وحدث هذا في إيطاليا عام 1992 بعد انهيار النظام السياسي الذي تشكل بعد الحرب إثر فضيحة رشوة ضخمة وسقوط سور برلين، وعندما قام جيليانو أماتو، رئيس الوزراء حينذاك، بإجراء تغييرات بنيوية خلال حكومة تكنوقراط استمرت لعام واحد.

لكن مثل هذه الحكومة ستتطلب إجماعا قويا في البرلمان. وقد أظهر غضب البرلمان الثلاثاء أن غالبية برلسكوني هشة للغاية. لكن من خلال قوة شخصيته، أقر رئيس الوزراء بأنه لن يتخلى عن منصبه على الرغم من تراجع الدعم الذي كان يحظى به، وعدد من الفضائح القانونية المخجلة. وقال في رسالة مسجلة لمناصريه يوم الجمعة: «لا يوجد بديل لحكومتنا»، ثم سافر إلى روسيا في زيارة سرية للاحتفال بعيد ميلاد صديقه فلاديمير بوتين رئيس الوزراء الروسي.

وقد شهدت إيطاليا حالة من الجدل بشأن سخرية برلسكوني من تشكيل حزب جديد يدعى «فوزا إيطاليا» أو «إلى الأمام إيطاليا»، الذي كان اسم أول حزب سياسي، والذي استبدل بكلمة إيطاليا مصطلحا مبتذلا لتشريح النساء.

وقد أعطى هذا الانتقاد دافعا لتحالف الديمقراطيين المسيحيين السابق الذي يزيد من الضغوط على برلسكوني، بدعم من الفاتيكان، للتنحي.

لكن المحللين يشيرون إلى أن التحالف الجديد لا يملك برنامجا واضحا وربما لا يتمكن من الحصول على الأغلبية الكافية لتشكيل حكومة حتى وإن أسقط برلسكوني. ويقول فولي: «تستطيع مجموعة من الأشخاص الغاضبين إسقاطه لكن لا يوجد تحالف آخر. وسيظل دائما متمتعا بالقدرة على زعزعة الحكومة الجديدة».

من جانبها، تعاني أحزاب المعارضة في يسار الوسط من الضعف والانقسام ليس فقط على صعيد السياسات الاقتصادية، بل على مستوى قادتها الذين يتنوعون بين ليبراليين جدد يفضلون توسيع التشريعات الحكومية الخاصة بقانون العمل، إلى شيوعيين يعارضون الكثير من برامج التقشف التي وافقت عليها إيطاليا في سبتمبر (أيلول) الماضي.

وفي الوقت الذي لا تزال فيه العاصفة الاقتصادية تتسبب في الآلام لإيطاليا، وصلت الحكومة إلى طريق مسدود حول ما إذا كان على قانون تحفيز النمو أن يشمل عفوا ضريبيا يسمح للإيطاليين بدفع نسبة مئوية فقط من ضرائبهم غير المدفوعة (أو التي تم تهريبها)، إضافة إلى إعفاءات على الأبنية غير القانونية. ومثل هذه الإعفاءات تقليد طويل الأمد في السياسات الإيطالية ومعروفة لدى الكثير من الناخبين، لكن اتحادات الصناعيين الإيطالية انتقدت الاقتراح كمكافأة للسلوك السيئ.

من ناحية أخرى، يتشاحن برلسكوني صراحة مع وزير المالية جوليو تريمونتي، الذي يعتبر منافسا سياسيا، على الرغم من الصورة التي جمعتهما معا مؤخرا. وقد وصل تريمونتي متأخرا إلى تصويت الثلاثاء (وقال مكتبه في بيان إن غيابه لم يكن له أي بعد سياسي).

التوتر بين الرجلين كان واضحا إلى حد بعيد في ترشيح خليفة لماريو دراغي رئيسا للبنك المركزي الإيطالي، ويدعم دراغي، الذي سيتولى منصب رئيس البنك المركزي الأوروبي في 1 نوفمبر (تشرين الثاني)، نائبه في بنك إيطاليا. لكن تريمونتي وقائد حزب التحالف الشمالي القوي يدعم فيتوريو غريلي، المدير العام لوزارة المالية.

ونظرا لاستمرار الأزمة - وازدياد العاصفة الاقتصادية - ازدادت حالة الإحباط لدى النخبة الإيطالية. ويقول فولي: «من يدير الاقتصاد الإيطالي؟ في هذه اللحظة، هذا سؤال يقف دون إجابة، وللأسف لا توجد إجابة».

* خدمة «نيويورك تايمز»