الاحتباس الحراري يحيي طريقا في القطب الشمالي ينافس قناة السويس

بوتين يعتبر الظاهرة «فرصة رائعة» تختصر الطريق بين أوروبا وآسيا

الناقلة «فلاديمير تيكونوف» تمر بمضيق بيرنغ الفاصل بين بحر بيرنغ والمحيط المتجمد الشمالي
TT

رأى القبطان فلاديمير بوزانوف، وهو يدور حول الطرف الشمالي الأقصى لروسيا في رحلته في زورقه الجرار في المحيط، رؤوس بعض الحيتان البيضاء وعلى البعد بعض الجبال الجليدية. ومن الأشياء التي لم يقابلها بوزانوف في رحلته التي قطع خلالها 2300 ميل عبر المحيط المتجمد الشمالي هو جبل صلب يقطع مساره. وأوضح أنه منذ عشر سنوات كان من النادر أن تجد الطريق خاليا من الجليد حتى في عز الصيف.

ومع ذلك يقول علماء البيئة إنه لم يعد هناك أي شك في أن يقلص الاحتباس الحراري حجم الجليد في القطب الشمالي، مما يفتح طرقا بحرية جديدة ويتيح الملاحة في الطرق التي كانت صالحة للملاحة لعدد أكبر من الشهور بالقرب من الشاطئ في الماضي. وأيا كانت التداعيات البيئية القاتمة لانبعاثات الغاز الدفيئة، تكتشف الشركات في روسيا والدول الأخرى حول المحيط المتجمد الشمالي هذا الجانب المضيء من السحابة السوداء من خلال اكتشاف المزيد من الفرص في التجارة. وربما من المرجح أن تكون شركات النفط من أكثر المستفيدين، حيث يزيد انحسار الجليد من مساحة قاع البحر التي يمكن أن يتم التنقيب فيها. ووقعت شركة النفط العملاقة «إكسون موبيل» مؤخرا على عقد للتنقيب في الجزء الروسي من المحيط المتجمد الشمالي، لكن تتجه مشاريع الملاحة والتعدين والصيد نحو الشمال أكثر.

وقال الرئيس الآيسلندي، أولافور راغنار غريمسون: «من المفارقة أن تظهر الفرص الجديدة أمام دولنا في الوقت الذي ندرك فيه أن خطر الانبعاثات الكربونية بات وشيكا». وجاء هذا خلال مؤتمر عُقد مؤخرا عن حركة السفن في المحيط المتجمد الشمالي في هذه المدينة التي تضم ميناء والتي تقع جنوب الدائرة القطبية الشمالية.

وفي المؤتمر نفسه، أعرب رئيس الوزراء الروسي، فلاديمير بوتين، عن دعمه الكامل للمشاريع المحتملة في الشمال الذي يتعرض جليده للذوبان. وقال: «القطب الشمالي هو طريق مختصر بين الأسواق الأوروبية الكبرى ومنطقة المحيط الهادي الآسيوية. إنها فرصة رائعة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب».

سجلت ناقلة بترول خلال الصيف الحالي، الذي سُجلت به أعلى معدلات الحرارة في القطب الشمالي، رقما قياسيا في سرعة قطعها للمحيط المتجمد الشمالي، حيث قطعته في 6 أيام ونصف، بينما كانت محمّلة بشحنة غاز طبيعي في حالة سائل مكثف. وكان الرقم السابق هو 8 أيام. ويقول العلماء إنه على مدى العشر سنوات الماضية، كان متوسط حجم طبقة الجليد في سبتمبر (أيلول)، وهو وقت يكون فيه حجمها في أقل مستوى له، نحو ثلثي متوسط الحجم خلال العقدين الماضيين. ومن المتوقع أن يخلو المحيط المتجمد الشمالي من الجليد تماما في فترة تتراوح من 30 إلى 40 سنة، بحسب «أركيتيك مونيترينغ أند أسيسمنت بروغرام» وهي مجموعة دراسة نرويجية. ولذا تتجه خطط العمل الخاصة بضخ رؤوس الأموال إلى الاعتماد على ما يحدث من تغيرات في جزء من العالم له تاريخ مخيف من ناحية الرحلات البحرية بحسب مذكرات مستكشفين مثل هيو ويلوبي من إنجلترا. وقد تُوفي مع طاقمه عام 1553 أثناء محاولته الإبحار من أوروبا إلى آسيا عبر هذا الطريق المختصر الذي يُعرف باسم الممر الشمالي الشرقي.

ويبحر الروس عبر الممر الشمالي الشرقي منذ قرن بمحاذاة الساحل. وقد فتحوا الطريق للملاحة البحرية عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. مع ذلك بدأت بعض الشركات مؤخرا ترى أن الطريق يحقق الكثير من الأرباح، حيث فتح انحسار الجليد به المزيد من الممرات القريبة من الشاطئ مما يسمح بمرور السفن الحديثة الكبيرة وتقليل أيام الرحلة وتوفير الوقود.

أبحرت أول سفينتين تجاريتين في العالم عام 2009 في شمال روسيا بين أوروبا وآسيا. وأبحرت 18 سفينة خلال العام الحالي عبر الطريق الذي بات خاليا تقريبا من الجليد. وتضمنت الرحلات الإبحار عبر الممر الشمالي الشرقي قدوما من ميورمانسك إلى ميناء أنادير الروسي في المحيط الهادي عبر بحر بيرنغ من ألاسكا. وذكرت شركة «أرورا إكسبيديشينز» الأسترالية في منشوراتها الدعائية: «من عوامل الجذب في هذه الرحلة المحطات الروسية المهجورة في القطب الشمالي».

وتتنافس بعض الطرق التي تمر بأعلى روسيا، على الطريق من أوروبا إلى آسيا عبر قناة السويس. وتعد مسافة الرحلة من روتردام إلى يوكوهاما في اليابان عبر الممر الشمالي الشرقي على سبيل المثال أقصر من مسافة الرحلة بين هاتين البقعتين عبر قناة السويس بنحو 4.450 ميلا بحسب وزارة النقل الروسية. وبالطبع أمام الطريق عبر المحيط المتجمد الشمالي الكثير ليصل عدد السفن التي تمر به إلى 18 ألف سفينة في العام وهو عدد السفن التي تمر عبر قناة السويس. لكن السبب الأساسي للمرور عبر المحيط المتجمد الشمالي، بحسب المشاركين في المؤتمر سالف الذكر، هو دعم الصناعات الأخرى في أقصى الشمال مثل التعدين واستخراج النفط.

واشترت شركة «سكودي» النرويجية منجم ذهب في شمال النرويج وأعادت إحياءه من أجل شحن الذهب إلى الصين عبر الممر الشمالي الشرقي. واستغرقت الرحلة إلى لينايونغانغ في الصين 21 يوما عام 2010، بينما تستغرق الرحلة إلى الصين عبر قناة السويس في العادة 37 يوما. وكان المبلغ الذي تم توفيره في الرحلة الواحدة 300 ألف دولار، بحسب تقديرات مسؤولين تنفيذيين في شركة «سكودي». وقال فيليكس سكودي، رئيس الشركة في مقابلة: «قليلون في مجال الشحن هم من يعرفون هذا الطريق».

وتستطيع شركة «نوريلسك» الروسية لتعدين النيكل والنحاس الآن شحن المعادن عبر المحيط المتجمد الشمالي من دون أن تقابل عوائق جليدية مثلما كان يحدث في الماضي مما يتيح لها توفير ملايين الروبلات لصالح حاملي الأسهم.

في شمال غربي ألاسكا، تنقل الآن شركة «ريد دوغ» لتعدين الزنك والرصاص الذهب عبر مضيق بيرنغ الذي كثيرا ما يكون أقل انسدادا بالجليد عنه منذ عقود مضت. وحدد فرع «سيتي غروب» في موسكو خمس شركات روسية تستفيد من الاحتباس الحراري في الشمال، حيث ترتفع درجات الحرارة أسرع من المتوسط العالمي بنحو الضعف.

وإضافة إلى شركة «نوريلسك»، هناك شركة «سوفوكمفلوت» وهي شركة شحن مملوكة للدولة، وأكبر شركتي غاز طبيعي في روسيا، وهما «غازبروم» و«نوفاتيك». والشركة الخامسة هي «روزنفيت»، وهي شركة نفط مملوكة للدولة ودخلت مشروعا مشتركا مع «إكسون موبيل» للتنقيب في بحر كارا، وهو جزء من نصيب روسيا في المحيط المتجمد الشمالي. وتعيد روسيا تجهيز حوض بناء سفن عسكري على مشارف أرخانغيلسك التي بنيت بها الغواصات النووية في عهد الاتحاد السوفياتي لعمل منصات تنقيب عن الغاز والنفط. والهدف في صناعة الصيد العالمية هو البقعة الوسيطة في المحيط المتجمد الشمالي وهو عبارة عن جزء في قلب المحيط مساحته ملايين الأميال المربعة فيما وراء المناطق الاقتصادية الحصرية للدول الساحلية التي تقع على بعد 200 ميل. حتى عام 2000، كانت هذه المنطقة متجمدة طوال العام، أما الآن فأجزاء كبيرة من شمال ألاسكا وشرق سيبريا تخلو من الجليد خلال الصيف.

دفع توجه الدول الجنوبية نحو الصيد في البقعة التي باتت متاحة للملاحة مؤخرا نحو إصدار تقرير من «بيو إنفيرومينت غروب» يحذر من احتمال هلاك سمك القد الذي يعيش في هذه المنطقة إذا لم يتم سن مجموعة جديدة من القوانين الخاصة بالصيد في هذه المنطقة.

على الجانب الآخر، نظرا لاستمرار تهديد الجليد لحركة الملاحة حتى في الطرق البحرية المفتوحة، تنظر السلطات الأميركية وروسيا والنرويج في احتمال إصلاح الموانئ على جانبي الممر الشمالي الشرقي بحيث تسمح بمرور جميع أنواع الحاويات بدءا من سفن الشحن العادية إلى الحاويات الضخمة التي تستطيع المرور عبر الجليد وعبور المحيط الشمالي المتجمد لتخدم بذلك كلا من آسيا وكندا والولايات المتحدة والساحل الشرقي وأوروبا. طبقا لهذه الخطة، من المحتمل أن يتم تحويل الموانئ التي تعتبر بعيدة حاليا مثل ميناء كيركينيس في النرويج أو أداك في ألاسكا، جنوب مضيق بيرنغ إلى مراكز تجارية لوجيستية حيوية للسفن في المحيط المتجمد الشمالي.

كان حاكم ولاية ألاسكا، ميد تريدويل، من ضمن الذين حضروا المؤتمر. وأشار إلى أن سلعا تقدر قيمتها بنحو مليار دولار قد مرت عبر مضيق بيرنغ العام الماضي وأن السفن التي كانت تحملها في طريق عودتها.

* خدمة «نيويورك تايمز»