التهريب يوحد الألبان والصرب في البلقان

اضطرابات كوسوفو يغذيها زعماء الجريمة السرية أكثر من التوتر العرقي

زفونوك فزيلونوفيتش (نيويورك تايمز)
TT

ظلت هذه المدينة التي تشتهر بالتعدين محل توتر عرقي لثلاثة أشهر في البلقان، مما ينذر بحدوث مزيد من التطورات من قبل قوات حفظ السلام التابعة لحلف شمال الأطلسي، وإجراءات من الاتحاد الأوروبي لعرقلة طلب عضوية صربيا الذي سعت إليه منذ مدة طويلة. في هذا الحصار الطويل الذي ترسمه حواجز الطريق، قذف سكان من الإثنية الصربية الحجارة على آخرين من الإثنية الألبانية على الجانب الآخر من نهر إيبار، وفي بداية الصيف الماضي نفذ رجال يرتدون شورتات وأحذية رياضية تفجيرا في محطة تفتيش على الحدود، مما أثار الفزع بين القوى الغربية من احتمال اندلاع صراع عرقي في شمال كوسوفو.

وكما هو الحال في أكثر الأحيان في هذا الإقليم الفقير، تكون الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك. وتقول السلطات إن هذه الحالة تكشف كيف تحولت المحاولات المحمومة التي تبذل لحماية مجال تهريب النفط بشكل غير قانوني، إلى حادثة عالمية تخيم عليها ذكريات مضطربة عن مذبحة البلقان العرقية التي حدثت في التسعينات.

ويقدر حجم التجارة غير الشرعية بنحو 100 مليون دولار سنويا، حيث يقول الكثير من المراقبين إنها تدعم تناغما عرقيا نادرا على طول الخطوط المتقابلة، على أساس طرق التهريب التي باتت تقسم المنطقة. وقال جوناس فان فريسويجك، كبير المدعين في الاتحاد الأوروبي في كوسوفو، الذي تولى منصبه لثلاثة أعوام وغادر في يونيو (حزيران) الماضي: «إذا تمكن الصرب والألبان من جني الأرباح من الجريمة، فلن يمانعوا في الاشتراك معا في مشروع واحد».

طالما سادت الكراهية في مدينة ميتروفيتشا المقسمة، لكن بحسب الكثير من ضباط الشرطة المحليين والمراقبين الدوليين، فإن ذلك ليس السبب الرئيسي في استمرار الاحتجاجات على الحدود، وإنما زفونوك فزيلونوفيتش، وهو صربي في الثلاثين من العمر، حليق الرأس وذو نظرة ثاقبة وقوة صامتة، ويرفض البعض نطق اسمه ولو همسا في المطاعم الصربية المحلية. ويصف نفسه في الصحف الصربية بمستورد الوقود الأمين، وصاحب شركة بناء لم يهرب «لتر غاز». ويؤكد مؤيدوه أنه كبش فداء للغرب، الذي يصوره كشيطان لا يقبل إعلان استقلال كوسوفو عن صربيا عام 2008، وأنه شيد حواجز طريق ضخمة في نقاط تفتيش حدودية في يوليو (تموز) بعد تولي حكومة كوسوفو، التي هيمن عليها الألبان، مسؤولية التفتيش الجمركي.

ومع ذلك يقول ضباط شرطة كوسوفو المحليون، والدبلوماسيون الغربيون، وسلطات الجمارك، إن فزيلونوفيتش هو زعيم عالم الجريمة السري الذي تهدده سلطة الجمارك، وإنه يتولى تنظيم عدد كبير من حواجز الطرق التي بدأت قوات حلف شمال الأطلسي إزالتها، الخميس الماضي، وتفريق المتظاهرين الغاضبين برذاذ الفلفل.

وأصدر مسؤولو الادعاء في بعثة الاتحاد الأوروبي لحفظ السلام في كوسوفو مذكرة اعتقال بحقه، بتهم تهريب المخدرات والتهرب الضريبي، بداية العام الحالي، وقالوا إنهم يريدون استجوابه بشأن هجمات على نقاط تفتيش وقتل قناصة لضابط شرطة ألباني في كوسوفو، بحسب محقق دولي رفيع المستوى رفض الإفصاح عن هويته، نظرا لسرية التحقيقات.

ازدادت وتيرة التهريب الذي يعد شائعا في منطقة البلقان الوعرة في التسعينات، عندما استغل مهربو الهيروين والمتاجرون بالبشر الفوضى الناجمة عن الحرب في عمل ما يعرف محليا باسم «العمل العنيف». وخلال السنوات الثلاث التالية لانفصال كوسوفو عن صربيا وإقامة دولة جديدة بدعم غربي، تصدّر النفط ساحة التجارة غير الشرعية. ويعد الألبان أغلبية في كوسوفو التي يبلغ تعداد السكان بها مليونين، لكن في الشمال يفوق عدد الصرب الألبان، حيث يعدون 55 ألفا، واحتجوا عندما أعلنت كوسوفو الاستقلال عام 2008. أشعل البعض بوابتين للجمارك ولم تتم استعادة النظام بالكامل على الرغم من التفتيش الصوري الذي تقوم به السلطات الدولية. وانتهز المهربون الفرصة في نقل النفط من دون ضرائب من مصفاة تكرير في صربيا وشراء النفط بنصف سعر التصدير، ثم بيعه للمستهلكين بتخفيض نسبته 40 في المائة بسعر 0.75 يورو أو ما يعادل 1.04 دولار للتر، أو نحو 3 دولارات للغالون. وبحسب مسؤولي تطبيق القانون، كثيرا ما تعمل العصابات الصربية العرقية مع العصابات الألبانية في توصيل الوقود إلى مناطق أبعد داخل كوسوفو، حيث يخففون الديزل ذا الدرجة المتدنية ويبيعونه من محطات مؤقتة للتزود بالوقود، وقال بيستيم هوتي، المتحدث باسم شرطة كوسوفو: «يمكن للشباب رؤية كيف يجني الكبار المال.. إنها أسرع طريقة للحصول على المزيد من الأموال، وهذا هو ما صنع زفونوك.. هذا هو آخر موقع يمكن الدفاع عنه بالنسبة للبعض».

وبحسب سكان محليين ومحققين، كانت بداية زفونوك كـ«مراقب جسر» في مجموعة تراقب جسر نهر إيبار الرئيسي للألبان، وعُرف للصحافيين وآخرين بـ«قبلات كوسوفو»، وفي الوقت الذي أصبح فيه زعيما لعالم الجريمة السري، بحسب قول المصادر، أثار القبض عليه من قبل ضباط شرطة كوسوفو عام 2005 بتهمة سرقة سيارات، احتجاجات واسعة في الشارع. وقال مراقب دولي، رفض ذكر اسمه لخوفه من الانتقام منه، إن زفونوك أقام علاقات مع أحزاب سياسية وسياسيين، ويقول المحققون إنه انخرط في مجال بناء حواجز الطريق من أجل حماية التهريب، وكان يدفع 50 يورو أو ما يعادل 70 دولارا يوميا للمحتجين، وهو ما نفاه بقوله: «إن هذا هو أكبر كذبة سمعتها في حياتي».

وتم رصد أربع من الشاحنات الضخمة الخاصة به مكتوبا عليها «يوروكوب»، وهي توقع كاميرات مراقبة تلفزيونية على الجسر الرئيسي، على حد قول المحققين. في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، قطعت شاحنة أخرى الطريق الوعر الذي كان يستخدم كطريق تهريب بديل، والذي لا يُسمح إلا لحراس معينين بدخوله.

ويدافع القادة الصرب عن فزيلونوفيتش بقولهم إن الدول الغربية بالغت في أمر التهريب لأغراض سياسية، وإنهم يحاولون تلويث سمعة قادة المظاهرات. وقال ميلان إيفانوفيتش، وهو طبيب ورئيس حزب سياسي (المجلس القومي الصربي) ومن المشاركين في تنظيم المظاهرات السلمية: «إنهم يقولون إنني زعيم مافيا في شمال كوسوفو.. إنهم يحاولون تشويه سمعتنا».

من جانبه، أكد فزيلونوفيتش أنه كان يقضي عطلة مع أسرته في مونتينيغرو خلال إطلاق النار واندلاع أعمال العنف، وإنه لم يلعب دورا كبيرا في تلك الاحتجاجات، وأضاف قائلا: «أنا لا أفعل شيئا سوى دعم حواجز الطريق».

وأقرت سلطات الدول الغربية وقوات حفظ السلام التابعة لحلف شمال الأطلسي بأن فزيلونوفيتش يقدم نموذجا للتماسك العرقي. وتقول السلطات إنها توصلت إلى انفراجة مع رجل تعرفه الشرطة بأنه نظير فزيلونوفيتش الألباني، وإن كان أقل قوة، وهو مينترو بيكيري (32 عاما) الذي ألقت شرطة كوسوفو القبض عليه عام 2009 بتهمة تهريب النفط، وتم إسقاط التهمة عنه فيما بعد لعدم كفاية الأدلة. وبحسب المحققين، تعاون الرجلان في توزيع النفط المهرب في مدينة ميتروفيتشا المقسمة. ورفض بيكيري الذي يملك سلسلة من محطات الوقود، على لسان بعض رؤسائه، إجراء مقابلة. وعلى الجانب الآخر، ينفي فزيلونوفيتش أي تعاون معه، ويقول: «لم أتصل بهذا الرجل من قبل».

لكن بحسب أحد المحققين، عندما احتاج فزيلونوفيتش إلى التحدث مع بيكيري، تقابلا في منطقة منعزلة في صربيا بالقرب من حانة «بريغاندز»، ولم تكن في تلك المنطقة أي شبكة للهواتف الجوالة، مما يجعلها مناسبة للهروب من تلصص سلطات تطبيق القانون.

وتبدو القوات الغربية حذرة في اتخاذ أي إجراء ضد فزيلونوفيتش، على الرغم من إصراره على وجوده في كل الأوقات واستعداده للدفاع عن نفسه، ولذلك الحذر أسباب مختلفة. ويقول مراقبون دوليون إن أتباعه مدججون بالسلاح، والشهود يخافون قول أي شيء، وإنه متحالف مع مسؤولين في الشرطة الصربية وقد حضروا مراسم تعميد ابنه العام الماضي، ومع ذلك يتخذ الضغط أشكالا أخرى، منها القبض على 13 سائقا لسيارة «يوروكوب» الشهر الماضي، للاشتباه في دخولهم البلاد بطريقة غير شرعية، والمساعدة في بناء حواجز الطريق. ويأملون أن تلقن التجارة القائمة على التهريب البلقان درسا حتى وإن كان ذلك بطرق ملتوية. ويقول إندي سباركس، نائب رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي: «هناك تواصل عميق بين الألبان والصرب في عالم الجريمة.. نحن بحاجة لرؤية امتداد هذا التعاون إلى مجالات يمكن أن تفيد المجتمع».

* خدمة «نيويورك تايمز»