المحررون .. من ضيق الزنازين إلى سعة البحر

«الشرق الأوسط» مع الأسرى بفندق «الكومودور» في غزة.. أحدهم: أشعر أني نبتة جافة هطل عليها المطر فجأة

TT

من على مقعده في إحدى الشرفات المطلة على البحر، يتابع راتب زيدان، 45 عاما، باهتمام واضح انكسار الأمواج عند اقترابها من الشاطئ ثم انكفاءها من جديد، ويحملق في زرقة المياه التي تملأ الأفق أمامه، وحتى عندما يتحدث إلى أحد، فإنه يحرص على استراق النظر مرة أخرى للمشهد غير المألوف بالنسبة له، الذي أسره.

وزياد، هو أحد الأسرى المحررين من الضفة الغربية، الذين أفرج عنهم، ضمن صفقة تبادل الأسرى التي تم التوصل إليها بين حركة حماس وإسرائيل، وتم إبعادهم لقطاع غزة، بعد أن أمضى في السجن 21 عاما، من أصل مؤبدين وعشرين عاما إضافية، بعد إدانته بقتل جنود إسرائيليين ردا على المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في قرية «قبية» بقضاء رام الله، مطلع الانتفاضة الأولى.

وعن كيفية تأقلمه مع الحياة في الفندق، بعد قضاء نحو 21 عاما في إحدى زنازين سجن «أيشل» القريب من مدينة بئر السبع في صحراء النقب جنوب إسرائيل، قال راتب لـ«الشرق الأوسط»: «أشعر كما لو كنت نبتة جافة لفترة طويلة، ثم هطل عليها المطر فجأة وبغزارة.. إنه شعور عظيم بالراحة والسعادة وعدم التصديق». ويشير راتب إلى أنه لا يمل من النظر للبحر، والمشي على الشاطئ، لأنه طوال 21 عاما لم يحدث أن وطأت قدماه التراب.

وفي الوقت الذي كانت فيه «الشرق الأوسط» تحاور راتب، كان كثير من الأسرى يتحركون على شاطئ غزة الجميل، رغم الانخفاض الواضح في درجات الحرارة، وبعضهم يلهو بمياه البحر.

كان يوسف الطل، وهو من محافظة الخليل، الذي كان يقضي حكما بالسجن مدى الحياة أمضى منه 18 عاما، ينزل رجله في الماء ثم يرفعها بسرعة بسبب برودتها، ثم يعيد الكرة مرة ومرات. ويؤكد يوسف أنه لم يسبق له أن رأى البحر في حياته، مشيرا إلى أن خروجه من السجن مباشرة إلى مكان يحتضنه البحر أسعده كثيرا. وعن كيفية تأقلمه في ظروف الحياة الجديدة، قال يوسف إنه لا يزال غير قادر على تصديق ما يعيشه حاليا، موضحا أنه يتأقلم بشكل جيد ومتسلسل.

في هذه الأثناء، كانت هناك عدة قوارب تقل بعض الأسرى في رحلة بحرية قرب الشاطئ، الذي يخضع لمراقبة قارب للشرطة البحرية، وكان يمكن لمن يقف على الشاطئ أن يسمع بوضوح الأصوات المعبرة عن الفرح والرضا التي تنبعث من هذه القوارب. وخلال معاينة «الشرق الأوسط» فندق «الكومودور»، وهو أحد الفنادق التي ينزل فيها أسرى الضفة الغربية المحررون المبعدون إلى غزة الذين بلغ عددهم 165، استمعت إلى حوار بين أسيرين محررين؛ أحدهما يقسم بأغلظ الأيمان للآخر أنه لدى هطول المطر لأول مرة في غزة فإنه سيمشي في الشارع من دون مظلة حتى يتبلل تماما. وأقسم الآخر على أنه سيفعل الشيء ذاته. وعندما توجهت «الشرق الأوسط»، لهذا الأسير بالسؤال، قال: «هذا طبيعي، لقد اعتقلت 19 عاما، ولم يحدث أن رأيت منظر المطر وهو يهطل من السماء.. لذا، فأنا مشتاق كثيرا لرؤية منظر هطول المطر، لكي أتبلل تحته.. قد يبدو الأمر في نظركم أمرا مستهجنا، لكنه ليس كذلك بالنسبة لمن حرم من هذا المشهد كل هذه السنين».

لكن في الوقت الذي ينفي فيه الأسرى عدم قدرتهم على التأقلم مع الحياة في ظل الحرية، فإن هناك بعض المؤشرات التي تدلل على أن درجة تأقلم الأسرى مع الحياة خارج السجن غير كاملة. فقد لاحظت «الشرق الأوسط» أن بعض الأسرى ينتظمون في جماعات ويتحركون جيئة وذهابا في بهو الفندق، وهو السلوك نفسه، الذي كانوا يقدمون عليه أثناء «الفورة»، وهي الفترة التي كان السجانون الإسرائيليون يسمحون لهم بمغادرة الزنازين والتحرك في فناء واسع كل يوم لمدة عام. وعندما واجهت «الشرق الأوسط» بعض الأسرى، أقروا بأن ذلك بالفعل هو نتاج الإرث الطويل من السلوك على هذا النحو. وفي الوقت الذي يتحرك فيه الأسرى بحرية في الفندق ومحيطه، فإنه لوحظ وجود عدد من الرجال بالزي المدني وهم يراقبون كل من يدخل المنطقة ولا يترددون في الاستفسار منه عن سبب وجوده في المكان.