«رجال المرور» حفظوا هيبة الدولة لحظة السقوط ولم يحمهم أحد في العراق اليوم

اغتيالهم انتهاك أخلاقي وسياسي خطير لرمزية الدولة وسلطة النظام

شرطة مرور ينظمون حركة السير بشارع مزدحم وسط بغداد وهم يحملون أسلحتهم أمس (أ.ب)
TT

في تمام الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم التاسع من أبريل (نيسان) عام 2003 كان مشهد إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس بقلب بغداد يؤذن بانتهاء حقبة سياسية كاملة من تاريخ العراق امتدت لثمانية عقود من الزمن. وطوال تلك الحقبة الزمنية الطويلة كانت المنظومة الأمنية في البلاد لا سيما في العقود الثلاثة الأخيرة التي استولى فيها حزب البعث على مقاليد السلطة في العراق قد دخلت في حالة خصام في العديد من مفاصلها مع المنظومة الاجتماعية. وحدهم رجال شرطة المرور لم يكونوا طرفا لا في خصام سياسي أو مجتمعي مع أنهم محسوبون على الأمن الداخلي في البلاد. وفي اللحظة التي سقط فيها تمثال الفردوس كانت الدولة العراقية كلها تتهاوى. فالمحتلون الجدد كانوا يتفرجون على عمليات الفرهود في وقت اختفى فيه رجال العهد السابق من رئيس الجمهورية حتى موظفي الاستعلامات في أبعد مركز صحافي في العراق.

أما القادمون الجدد معهم ممن تمت تهيئتهم عبر مؤتمرات المعارضة لاستلام السلطة الجديدة فكانوا يترجلون توا من ظهور الدبابات الأميركية لا يعرفون أين يتوجهون لأن غالبيتهم لم يعد يعرف بغداد قبل أن يتوجهوا بهم إلى ما عرف بالمنطقة الدولية أو المنطقة الخضراء لاحقا. وحدهم في اليوم التالي للاحتلال كانوا يؤثثون تقاطعات شوارع العاصمة بقمصانهم البيضاء وسراويلهم الزرقاء في مشهد أعاد الاطمئنان جزئيا إلى الشارع العراقي. وبينما لم يحمل رجال المرور طوال حياتهم المهنية سوى مسدس شخصي بسيط هو الأدنى في سلم الأسلحة الحكومية ليس من باب الدفاع عن النفس بل من باب إثبات هيبة الوظيفة على صعيد الأمن الشخصي فإن منظرهم اليوم وهم يتأبطون بنادق كلاشنكوف دفاعا عن النفس ويطلقون في الوقت نفسه صافراتهم بوجه من يخالف أنظمة السير بات مدعاة للأسى والأسف في ظل تراجع معدلات الأمن رغم كل الحملات التي يجري الحديث عنها على صعيد اعتقال خلايا الإرهاب. رجال المرور موظفون رسميون مثل باقي موظفي الدولة بدءا من رئيس الجمهورية حتى أصغر موظف. وفيما يجد كل الموظفين أشكالا من الحمايات تبدأ من الحراس المدججين بالأسلحة إلى الأسلاك الشائكة والحواجز الكونكريتية والأنظمة الإلكترونية التي تحمي الكبار فإن رجال المرور وحدهم مجال عملهم الشارع في حر الصيف وبرد الشتاء. ومع أنهم لا يشكلون خطرا على أي تنظيمات مسلحة أو عصابات جريمة أو غيرها فإن السبب الوحيد لاستهدافهم بعمليات قتل بدأت تتكرر وتشكل ظاهرة لافتة في العراق اليوم ليس لكونهم أهدافا سهلة فقط بل لأن الجهات التي تنفذ مثل هذه الأعمال تريد إيصال رسالة مفادها أن لا هيبة للدولة أو النظام ما دام عاجزا عن توفير منظومة حماية للجميع بشكل متفاوت بل من خلال صياغة مفهوم للأمن المجتمعي بحيث يجعل رأس الدولة يسير في الشوارع بحد أدنى من الحراس مثلما هو معمول به في غالبية دول العالم ومثلما كان معمولا به في العراق حتى قبل سنوات ليست بعيدة. الأجهزة الرسمية تحمل كالعادة «القاعدة» مسؤولية مثل هذه الأعمال وحتى بافتراض أن هذا التشخيص سليم فإن المطلوب هو كيفية مواجهة الخطر. وإذا كانت هناك أجندة تقف خلف اغتيال الأطباء والمهندسين والأكاديميين فإن عملية اغتيال شرطي مرور لا تدخل في أجندة من هذا النوع قد يكون الموساد الإسرائيلي ضالعا فيها طبقا لما يجري توجيهه من اتهامات بقدر ما تدخل فيما هو أخطر من عملية إفراغ البلد من الكفاءات بل إفراغ البلد من أهم معاني وجوده وهو الهيبة. فاغتيال وزير الداخلية أو وزير الدفاع لا يعني إسقاطا لهيبة الدولة لأن من يصل إليه عبر التفخيخ أو التفجير أو أي مستوى آخر يمثل شطارة مبنية على خطة طالما هو محاط بما يعادل فوجا أو أكثر من الحراسات. لكن اغتيال شرطي المرور رمز القانون في الشارع بمسدس كاتم صوت وإن كان يعني تقييد الجريمة ضد مجهول فإنه يعني من جانب آخر انتهاكا أخلاقيا وسياسيا خطيرا لرمزية الدولة وهيبة النظام.