براعم الرومانسية تتفتح بين الشباب الليبيين بعد انتهاء حقبة القذافي

معظم العاملين لا يكسبون سوى بضع مئات من الدولارات شهريا ولا يقدرون على تكاليف الزواج

مواطنون ليبيون يشاهدون آلات هدم تعمل على إزالة منزل العقيد الليبي السابق معمر القذافي بمجمع باب العزيزية في العاصمة طرابلس أمس (إ.ب.أ)
TT

إذا تحدثنا عن الحب.. كانت ليبيا في عهد معمر القذافي سيئة الطالع بالنسبة لسائق شاحنة أعزب عمره 33 عاما هو نوري فاكيار؛ فقد أجبره ضيق الحال على العيش في تعاسة منذ سن الطفولة وحتى سن البلوغ. كان الزواج وامتلاك منزل خاص وإنجاب أطفال.. أحلاما كبح الليبي النحيل جماح نفسه منذ وقت طويل لعدم التفكير فيها. «من قبل، لم أكن أجرؤ على النظر إلى الفتيات والتفكير فيهن كزوجات محتملات، لأنني كنت موقنا أني لا أستطيع تحمل تكاليف» الزواج، هكذا يتحدث فاكيار الآن.

وعلى الرغم من ذلك، ففي هذه الأيام، يرتدي فاكيار الآن زي تمويه غير متناسق الألوان مميز للثوار الليبيين، وعصابة أنيقة على رأسه، بحيث يبدو في مظهر القراصنة. وهو يحمل بندقية. ويعتبر متمرسا في المعارك التي خاضها الليبيون سعيا إلى التحرر من قبضة نظام القذافي، والنساء هن من يتحدثن إليه الآن.

«الفتيات حول المنطقة يأتين إلي ويقلن: شكرا لك.. لقد جعلتنا نشعر بالفخر والسعادة»، هكذا حدثني فاكيار في إحدى الليالي مؤخرا. وكان ذلك أثناء إقامة وليمة ضمت أطباقا من لحم الإبل والكسكسي في إحدى ضواحي طرابلس لآلاف من الثوار الشباب، بعد ذبح 10 جمال.

ومن منصة مقامة خصيصا في هذا الاحتفال، أثنى المتحدثون على المقاتلين الثوار الشباب في وقت متأخر من الليل. ووقفت مئات من النساء والفتيات الشابات المحجبات المبتهجات بالقرب من شباب يحملون بنادق، في مشهد لم تعهده هذه الدولة المتحفظة التي كانت تعج بأفراد من الجنسين تلك الليلة. «إنه أشبه بحفل زفاف!»، هكذا تحدث فاكيار وهو يهز رأسه في حالة من الاندهاش.

لقد تغيرت العلاقات بين الرجال الليبيين والنساء الليبيات، التي شوهها القائد الليبي الراحل غريب الأطوار «بنسبة 100 في المائة» منذ سقوط القذافي، على حد قول الثائر الشاب. واتفق معه في الرأي رفاقه الجالسون بجواره يستمعون إليه.

وأضاف فاكيار: «الشكر لله».

وعلى مقربة، أعرب عدد من النساء الشابات - مجموعة من بنات العم والجارات تجمعن معا وكن يرتدين تنورات طويلة وقمصانا وأغطية رأس - عن الرأي نفسه وأخذن يتبادلن الضحكات حول فكرة انتقاء أزواجهن من بين الثوار. قبل الثورة، كان الرجال الشباب «لا يفعلون شيئا سوى التسكع في الشوارع، ولم يكن هناك أي تفكير في المستقبل. لم أكن أعبأ بهم مطلقا»، هكذا تحدثت إسراء القاضي (20 عاما)، وأضافت: «أما الآن، فأنا أنظر إليهم نظرة جديدة تماما، لقد وقفوا ضد القذافي، لقد قاموا بعمل يستحق التقدير».

«كنا ننظر إليهم بوصفهم شبابا ضائعا عاطلا»، هكذا تحدثت ريحانة القاضي (19 عاما) عن الرجال من جيلها. واستطردت قائلة: «نحن الآن مندهشات، بل في أشد حالات الاندهاش، لرؤية ما تمكنوا من تحقيقه».

وأضافت: «نحلم باليوم الذي يعودون فيه من ساحة القتال، ونرحب بهم».

تم تناقل نكات عبر الرسائل النصية على الهواتف الجوالة في مختلف أنحاء ليبيا تؤكد الجدارة التي اكتشفت حديثا للمدنيين الشباب الذين تحولوا إلى مقاتلين.

«لننس الأطباء والمهندسين.. نحن نرغب في الزواج بثوار»، هكذا جاء نص إحدى الرسائل النصية التي تم تداولها على نطاق واسع على الهواتف الجوالة. وحملت رسالة نصية أخرى السؤال التالي: «أتبحثين عن ثائر للزواج؟ اضغطي على (إم) للحصول على زوج من مصراتة، و(بي) للحصول على زوج من بنغازي».

لكن ليبيا ما زالت دولة إسلامية شديدة التقيد بالقوانين والعادات، وقليل جدا - إن وجد - من هؤلاء الرجال والنساء الشباب غير المعروفين هم من كانوا يتحدثون بالفعل لبعضهم البعض أثناء الليل في الاجتماع الحاشد الذي تبع وليمة لحم الإبل. ومرة واحدة فقط أثناء زيارة قمت بها الشهر الماضي إلى «ميدان الشهداء» في طرابلس، وأنا محاط بحشود من المحتفلين في كل ليلة منذ الإطاحة بالقذافي، رأيت ثائرا طويلا مسلحا وامرأة شابة محجبة يتبادلان أرقام هاتفيهما الجوالين. وأخذ ناشط ليبي شاب كان بصحبتي يرقب الثائر والمرأة الشابة وهما يخرجان من الميدان معا. وقال زميلي الليبي، وعلى وجهه أمارات الاندهاش: «لم يحدث هذا مطلقا من قبل».

لكن تفتح براعم الرومانسية في وقت الحرب يعني في ليبيا ما هو أكثر من مجرد الشعور بالنشوة للإطاحة بحكم ديكتاتوري امتد على مدار 4 عقود.

مع سقوط الحكام المستبدين في كثير من أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يأمل الرجال والنساء العرب في الدول التي تحررت حديثا من قبضة هؤلاء الحكام الطغاة في القضاء على أحد أكثر أشكال الظلم عمقا ودمارا التي رسخها حكام على شاكلة القذافي، وهو انعدام الفرص الاقتصادية، الأمر الذي ألحق الضرر بكل جانب من جوانب حياة الشباب في المنطقة. يضم العالم العربي ثاني أكبر نسبة شباب في العالم. فنحو اثنين من بين كل 3 عرب تحت سن الـ30، وهي نسبة لم تزد عليها سوى نسبة الشباب في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. كما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بها أعلى نسبة بطالة بين الشباب وأعلى إجمالي نسبة بطالة على ظهر البسيطة.

منذ أعوام مضت، بدأ علماء سياسيون، من بينهم ديان سينغرمان، في استخدام مصطلح «الانتظار» لوصف النظرة المعرقلة لأجيال الشباب في العالم العربي. لقد مني ملايين الشباب العاجزين عن إيجاد فرص أو إيجاد وظائف برواتب مجزية، بالعيش في تعاسة في أوطانهم، عاجزين عن تحمل تكاليف الزواج. وفي المجتمعات الإسلامية المحافظة، يعتبر الزواج بالنسبة للكثيرين هو النافذة الوحيدة للاستقلالية والكرامة وبناء أسرة.

وبشكل فعلي، بالنسبة للشباب العرب من الطبقة الفقيرة والمتوسطة، «في حالة كونهم عاطلين، لن يكون لديهم أي أمل في أن يصبحوا بالغين»، هذا ما أخبرني به سينغرمان، أستاذ مشارك بالجامعة الأميركية في واشنطن، في وقت سابق من هذا العام.

وفي مختلف أنحاء المنطقة، ارتفع متوسط سن الزواج تدريجيا، ولكن ليس بالنسبة للسواد الأعظم، لأن ملايين الرجال والنساء العرب الشباب يستمتعون بسنوات العزوبية.

وقد كان الوضع سيئا على وجه الخصوص بالنسبة للشباب الليبي. فالقذافي لم يعجز فقط عن توفير وظائف ذات أجور مجزية للشباب، بل قضى على وظائف تقوم على أنظمة اشتراكية غريبة، مما دمر اقتصاد ليبيا. وفي الحقيقة، وصل الأمر إلى درجة من السوء إلى حد أن الحكومة الليبية قدرت بشكل رسمي نسبة البطالة في السنوات الأخيرة بنسبة 20 في المائة، ضعف المعدل الإقليمي المرتفع في الأساس.

ومثلما لاحظ الدبلوماسيون الأميركيون في ليبيا من خلال برقية دبلوماسية كشفها موقع «ويكيليكس» تناولت عن كثب معدل الانتظار المرتفع في ليبيا، فإن أكثر من 60 في المائة من هؤلاء الليبيين محظوظون بالدرجة الكافية بامتلاك وظائف تصلح للدولة. وقد عرقل القذافي زيادات الأجور في معظم تلك الوظائف على مدار عقود. وقال معظم الليبيين العاملين الذين تحدثت معهم إنهم لا يكسبون سوى بضع مئات من الدولارات شهريا. وعلى الرغم من ثورة ليبيا النفطية الضخمة، فإن نصيب الفرد الواحد من إجمالي الناتج المحلي لا يزيد على 10.000 دولار.

ويمكن أن تقدر تكلفة حفل زفاف واحد في ليبيا بهذا المبلغ، مثلما أخبرني شباب ليبيون. ويعتبر الزواج في ليبيا على وجه الخصوص مكلفا، حيث تستمر مراسم الاحتفال على مدار أيام ويكون من المتوقع تقديم مهور ذهبية. وهناك عجز في المعروض من المساكن، لكن من المتوقع أن يحجز المقبلون على الزواج شققا قبل الزفاف.

وجاءت النتيجة ممثلة في عدد لا حصر له من قصص الحظ السيئ. ففي زيارة قمت بها عام 2007، التقيت بأسرة في طرابلس مؤلفة من 6 إخوة وأخوات متعلمين في العشرينات والثلاثينات من عمرهم، ممن قاموا جميعا بشراء مستلزمات زواجهم، الذي لم يكن يحدوهم أي أمل في إمكانية تحمل تكاليفه. وكانت قصص معظم الشباب الليبيين الذين قابلتهم، حينها ومجددا هذا العام، تتمحور حول نفس الموضوع.

«ما يقوله ينطبق علينا جميعا»، هذا ما قاله الرجل الليبي الذي هو في العشرينات من عمره والذي تولى مهمة الترجمة لي بينما كنت أتحدث إلى فاكيار، المقاتل الثوري، عن افتقاره إلى التوقعات الإيجابية قبل اندلاع الثورة.

يبدو أنه لم يهتم أحد في النظام الليبي بتحديد أرقام ونسب بعينها. لدى النساء الليبيات فكرة مفادها أن هناك نقصا في عدد الرجال الصالحين للزواج، بسبب عدد القتلى الذين سقطوا جراء المغامرات العسكرية للقذافي في تشاد وأماكن أخرى، وبسبب نقص الوظائف.

«لو حاولت إحصاء عدد (العوانس) بيننا، فلن تستطيع. بالتأكيد ستخطئ، فهناك عدد هائل من الفتيات العانسات»، هذا ما قالته ريحانة القاضي، الشابة البالغة من العمر 19 عاما التي كانت موجودة بين حشد النساء الباحثات عن أزواج من الثوار الشباب في جنزور.

القلق بشأن عدم وجود فرص للزواج انعكس على التصريح غير المتوقع لرئيس المجلس الوطني نهاية الأسبوع الماضي، في إطار خطبة حماسية ألقاها في ليبيا، الذي جاء فيه أن ليبيا الجديدة ستعود إلى نظام تعدد الزوجات، الذي كان القذافي قد فرض عليه قيودا. لكن، وفقا للشريعة الإسلامية، فنظرا لأن هؤلاء الذين يتمتعون بالموارد الكافية للجمع بين أكثر من زوجة هم فقط من يمكنهم الزواج بأكثر من واحدة، فإن من المحتمل أن يؤدي فتح الباب لتعدد الزوجات إلى تصعيب الأمر على الشباب غير المتزوجين أصحاب المستوى المعيشي المنخفض.

إذن، هل كان لكل هذا الإحباط تأثير على مسار الثورة في ليبيا؟

في عام 2009، أشار مقال في صحيفة «ذي إكونوميست» إلى مشكلة «الانتظار» في العالم العربي، لكنه قلل من أهمية أي تأثير سياسي محتمل لها. جاء في المقال: «نادرا ما تم التركيز على فكرة ماهية الثورة السياسية التي تم القيام بها». تحدث إلى شباب عرب بعد الثورة بشكل مختلف. ففي زنجور، سألت فاكيار إلى أي مدى أثر يأسه من إمكانية التمتع بحياة طبيعية - إيجاد وظيفة والزواج وامتلاك منزل وإنجاب أطفال - على قراره بحمل السلاح والمشاركة في الثورة. أجابني بجدية: «بنسبة 100 في المائة». وفي مختلف دول العالم العربي هذا العام - في ليبيا وتونس ومصر واليمن - اشترك العديد من، وليس كل، المتظاهرين والمقاتلين الشباب في الرأي نفسه. «لم يكن لدى أي منهم شيء يمكن أن يخسره. لقد رأوا حياتهم تضيع هباء»، هذا ما قالته إسراء خليل، فتاة شابة عمرها 25 عاما، عن زملائها وأقربائها من الرجال. وأضافت: «لذلك أرادوا جميعا القتال». وفي قسم «العائلات» في أحد مقاهي طرابلس، أخبرني خليل بقصة جرت أحداثها في إحدى الليالي أثناء الثورة في أغسطس (آب). فعند الغروب، ومع دوي طلقات المدافع حول المنازل، هرعت هي ونساء وفتيات أخريات وهن يحملن المياه والساندويتشات للمقاتلين الشباب للحاق بموعد تناول طعام الإفطار في رمضان.

تروي إسراء أن النساء كن في حالة من الإثارة وهن يهرعن في محاولة لرفع معنويات الثوار المجهولين في طريقهم إلى الجبهة. ونتيجة تأثر الثوار المقاتلين، فاض الدمع من أعينهم وهم يأخذون الطعام من الفتيات.

من قبل، «كان هناك حاجز، وكان الثوار من الشباب سيئي الطالع يستحقون الشفقة»، هذا ما قالته إسراء خليل. وأضافت: «الآن أصبحوا هم الرجال الذين حمونا. منذ اندلاع الثورة أصبح لدي الثقة لأخرج وأقول لهم (شكرا لكم)، وهذا بدوره منحهم الثقة في أنفسهم. ونحن نعلم أننا كنا من أسباب اكتسابهم الشعور بالثقة، وهم يعلمون ذلك بالمثل».

* خدمة «واشنطن بوست»، مجلة «فورين بوليسي» خاص بـ«الشرق الأوسط»