هزيمة سياسية ـ دبلوماسية للولايات المتحدة في اليونيسكو

أكثرية مريحة جعلت فلسطين العضو الـ195 في المنظمة الدولية

الوفود الدولية في مقر اليونيسكو تصفق فور صدور قرار «اليونيسكو» منح فلسطين عضويتها (رويترز)
TT

لم تنفع التهديدات الأميركية (والإسرائيلية) والتحفظات الأوروبية في ثني المؤتمر العام لليونيسكو عن التصويت لصالح انضمام فلسطين كدولة كاملة العضوية إلى منظمة التربية والثقافة والعلوم. وأصيبت الدبلوماسية الأميركية بنكسة كبرى في المنظمة الدولية، حيث ألقت بكامل ثقلها لمنعها من التصويت لصالح الطلب الفلسطيني، مغدقة الوعود هنا وملوحة بالعصا الغليظة هناك.

وجاءت نتيجة التصويت كاسحة، إذ أيد انضمام فلسطين 107 أعضاء وعارضه 14 عضوا أبرزهم إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، ألمانيا وكندا وهولندا، بينما امتنع عن التصويت 52 بلدا، وغاب عن الجلسة الحاسمة 12 بلدا بينها دولة جنوب السودان، العضو 194 الذي قبلت عضويته في بداية أعمال المؤتمر العام.

ومثلما كان متوقعا، انقسمت بلدان الاتحاد الأوروبي على نفسها رغم «التوصية» التي أصدرتها «وزيرة» الخارجية كاترين أشتون، التي دعت العواصم الـ27 إلى الامتناع عن التصويت، غير أنه لم يستمع إليها بتاتا. وبحسب مصدر فلسطيني رفيع المستوى، فإن ألمانيا هي التي فرطت «الإجماع» الأوروبي إذ إنها أعلنت سلفا، أنها ستصوت ضد القرار مما أعطى البلدان الأخرى الحجة للتصويت على هواها. وجاءت المفاجأة من فرنسا التي كانت عبرت مرات عديدة عن تحفظها الشديد بحجة أنه «لا المكان ملائم ولا الزمان». وبعد أن امتنعت عن التصويت في إطار المجلس التنفيذي لليونيسكو في الخامس من الشهر الماضي، فقد صوتت إلى جانب الانضمام تماما كما فعلت إسبانيا واليونان وقبرص والنرويج وبلجيكا والنمسا وآيرلندا... أما بريطانيا وإيطاليا وسلوفينيا ورومانيا وغيرها فقد امتنعت عن التصويت فيما لحقت التشيك بألمانيا وهولندا وصوتتا ضد الانضمام.

واللافت أن رومانيا عارضت الانضمام في إطار المجلس التنفيذي، لكنها غيرت رأيها في الأيام الأخيرة.

وشهدت أروقة اليونيسكو، حتى الدخول إلى جلسة التصويت، مناورات وضغوطات من كل نوع. وعقد وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي مع المندوب الأميركي لدى اليونيسكو ديفيد كيليون، ثلاثة اجتماعات لمحاولة التوصل إلى مخرج يجنب المنظمة الدولية الانقسام وربما الشلل، غير أن الأخير بقي جامدا بحيث لم يقدم، وفق ما كشفته مصادر شاركت في الاتصالات لـ«الشرق الأوسط» أي مخرج للفلسطينيين والعرب. وكان التخوف الأخير أن يقدم عضوان من المؤتمر العام طلبا بتأجيل التصويت إلى فترة «لاحقة» غير محددة. ورد الجانب العربي بأنه سيطلب التصويت الفردي بالمناداة مرتين: الأولى على قبول التأجيل والثانية على رفض التأجيل. وكانت النتيجة أن أحدا من الدول لم يطلب التأجيل مما سمح بالانتقال إلى التصويت بعد أن تحدث 27 مندوبا (وزيرا أو سفيرا) آخرهم رياض المالكي.

وطلب المندوب الكندي التصويت بالمناداة ووقف إلى جانبه المندوب الهولندي. وبدأت العملية بكوريا الجنوبية. وبلغ عدد المصوتين بمن فيهم الممتنعون 173 بلدا وتغيب عن الجلسة أو في لحظة التصويت 12 بلدا. وينص القانون الداخلي على الحصول على ثلثي الأصوات من التي صوتت بنعم ولا فيما لا تحتسب الأصوات الممتنعة. وبذلك توجب على الفلسطينيين أن يحصلوا على 82 صوتا للفوز. والنتيجة أنهم حصلوا على فائض 25 صوتا.

ودوى التصفيق أثناء فرز الأصوات وعند إعلان النتيجة مما حدا برئيسة الجلسة المجرية إلى دعوة الحضور إلى الامتناع عن ذلك وانتظار انتهاء العملية.

وكانت الخيبة تقرأ على وجوه البعثة الأميركية وتحديدا المندوب الأميركي، الذي سارع إلى التلويح بـ«العقوبات» المالية التي ستفرضها بلاده على اليونيسكو. وتساهم واشنطن بـ22 في المائة من ميزانية اليونيسكو أي ما يساوي 70 مليون دولار لعامين. وقال ديفيد كيليون إنه «سيكون من الصعب على واشنطن بعد هذا التصويت أن تدعم ما تقوم به اليونيسكو» معبرا عن «الأسف» لأن «الجهود التي بذلت (لتفادي التصويت) لم تفض إلى نتيجة». وأكد المندوب الأميركي أن بلاده ملتزمة بحل الدولتين: دولة يهودية للشعب اليهودي وفلسطين وطنا للشعب الفلسطيني. كذلك لوحت أستراليا بالسير في الخط الأميركي لجهة حجب التمويل، فيما بقي المندوب الياباني الذي امتنع عن اتخاذ موقف «غامضا» في إشارته إلى معاودة النظر في تمويل مشاريع اليونيسكو.

أما المندوب الإسرائيلي الذي اعترف سلفا وقبل التصويت بالهزيمة الدبلوماسية، فقد أعلن أن قرار المؤتمر العام «مأساة لليونيسكو ولا يخدم قضية السلام». وتوجه للمؤتمرين قائلا لهم: «لقد قبلتم في المنظمة دولة لا وجود لها وهي دولة افتراضية». وأنب الحاضرين بقوله إنهم «صوتوا وعن إدراك على القبول وهم يعرفون أنهم يدفعون لتخفيض ميزانية اليونيسكو ولتشويه سمعتها».

ويأتي الفوز السياسي - الدبلوماسي الذي حققه الجانب الفلسطيني - العربي، مستندا إلى دعم غالبية الدول الأفريقية ودول المؤتمر الإسلامي وأميركا اللاتينية، وعدد لا بأس به من الدول الأوروبية، ليتوج المحاولة الـ22 التي جرت لضم فلسطين عضوا كامل العضوية إلى اليونيسكو، حيث كانت تتمتع بصفة «مراقب». ولن تصبح فلسطين عضوا فاعلا إلا بالتصديق على الوثائق الرسمية وهي عملية شكلية.

وسيمكن الانضمام فلسطين من الدفاع عن تراثها التاريخي والثقافي وعن آثارها والاستفادة من كل البرامج التي تقدمها المنظمة الدولية.

وفي كلمته قبل التصويت، اعتبر المالكي أن انضمام فلسطين من شأنه «ترسيخ معايير الحرية ومحاربة التمييز ودعم السلام والاستقرار الدوليين». وناشد المندوبين «تحكيم العقل والمسؤولية وجعل العدالة أساسا للتصويت». وميز المالكي بين ما يجري في اليونيسكو وبين ما هو حاصل من مناقشات في أروقة الأم المتحدة حول الطلب الفلسطيني الانضمام إلى المنظمة الدولية. وبعد التصويت اعتبر المالكي الانضمام «حقا طبيعيا» لفلسطين، واعدا بأن تكون بلاده «عضوا فاعلا» مضيفا أنه يريد «فتح صفحة جديدة» مع الجميع بمن فيهم من عارض الانضمام.

وقالت مديرة عام اليونيسكو إيرينا بوكوفا إنها «تستشعر رهبة اللحظة التاريخية» معتبرة القرار «ثمرة جهود شعب يريد الانضمام إلى الأسرة الدولية لتقاسم قيمها». غير أنها سارعت إلى الإعراب عن مخاوفها من انسحاب الولايات المتحدة ماليا بقولها إنه يتعين أن تكون هذه المناسبة «فرصة لتعزيز المنظمة الدولية وليس إضعافها». وأضافت بوكوفا: «بصراحة، من مسؤوليتي أن أقول لكم إنني أشعر بالقلق إزاء ما يمكن أن يمس الاستقرار المالي للمنظمة أو مواجهة وضع يؤشر لتأكلها، إذ أخشى على ميزانيتها بحيث أن غياب المساهمة المالية الأميركية يمكن أن يعرضها للخطر».

غير أن الوزير الفلسطيني الذي عقد مؤتمرا صحافيا بعد التصويت ندد بما سماه «الابتزاز» الأميركي. لكنه دعا إلى انتظار ما إذا كانت التهديدات الأميركية «ستترجم» أم لا إلى واقع وعندها «سنتدارس جميعا» كيفية التعامل لحماية اليونيسكو من الابتزاز.

وشدد المالكي الذي نقل رسالة من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى المؤتمرين بعد التصويت على أن ما حصل «بداية وطريق»، وأنه «يجب البناء عليه» لجهة ما ينتظره الفلسطينيون في مجلس الأمن والأمم المتحدة من التصويت على انضمام فلسطين عضوا كامل العضوية للمنظمة الدولية. وفي رأيه فإن الطريقة الوحيدة لمعرفة ما إذا كانت واشنطن ستستخدم فعلا الفيتو في مجلس الأمن هو التصويت، ولكن يتعين لذلك توافر تسعة أصوات على الأقل.