السلطة الليبية الجديدة في انتظار مواجهة أسوأ كوابيسها

أبرزها شق صف الثوار.. والعمليات الانتقامية بين المعارضين والموالين للنظام السابق

TT

بينما انتهت الحرب الليبية، بين العقيد الراحل معمر القذافي والقوات الثائرة عليه، رسميا بالقبض على القذافي ومقتله يوم الخميس 20 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تظل المشكلات الليبية الداخلية أكثر خطرا على الدولة الجديدة ربما من أعمال القتال. وأصبح على المجلس الانتقالي خلع الحلة العسكرية، وارتداء ثوب الحكمة لتجاوز مرحلتي «الانتقام» و«شق الصف» اللتين تكادان تطلان برأسيهما على المنطقة.

وتهدد العمليات الانتقامية المتبادلة - أو حتى تلك المتوعدة - بين كتائب الثوار والقوات التي كانت تنتمي يوما لمعسكر القذافي، والتي أصبحت الآن بلا قيادة حقيقية أو معروفة بدقة، بمستقبل صعب للدولة الوليدة، وخاصة في مجتمع قبلي في معظمه، ويحمل أغلب أفراده السلاح كما هو الحال في ليبيا، إضافة إلى مئات المخازن والترسانات المهملة، والمتاحة لأي يد بلا رقيب.

وبلغت حساسية الموقف الحد الذي دفع وزيرة الخارجية الأميركية إلى أن تقول، في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست» يوم الأحد الماضي، إن النظام الليبي الجديد أمامه «مهمة بالغة التعقيد.. بينما هم لا يتمتعون بخبرة كبيرة في مجال السياسة»، مشيرة إلى أن قادة ليبيا الجدد «عليهم إيجاد الطريقة لتحقيق المصالحة بين شتى المشارب السياسية والدينية.. عليهم توحيد كل القبائل ومواجهة التنافس الأبدي القائم بين الشرق والغرب، بين بنغازي وطرابلس».

وقد تحمل كلمات هيلاري كلينتون في طياتها مخاوف أخرى، لا تقل بحال عن مخاطر العمليات الانتقامية بين القوات الموالية والمناهضة للقذافي، إذ إن ثمة ملاحظات لمراقبين عما بدأ يطفو على السطح من خلافات بين الثوار أنفسهم سواء كانت معلنة أو خفية.

وبينما يرى ثوار بنغازي (شرق ليبيا) أنهم تحملوا عبء العمليات القتالية مع القوات الموالية للقذافي منذ اللحظات الأولى في 17 فبراير (شباط) الماضي. يلمح ثوار مصراتة (والقطاع الغربي) إلى أنهم هم من أنهوا الحرب ووضعوا لها النقطة الفاصلة حين قاموا باقتحام مدينة سرت، آخر معاقل القذافي الحصينة في 20 أكتوبر الماضي.

وكان آخر حوادث الصدام، وأكبرها - بل وأعنفها - حتى الآن، الاشتباكات التي وقعت أول من أمس بين المئات من الثوار بالقرب من مستشفى في العاصمة الليبية طرابلس. حيث أشارت صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية إلى أن تبادل لإطلاق النار استمر لعدة ساعات، وأسفر عن مقتل شخصين وجرح سبعة على الأقل، وذلك بعد مواجهة مسلحة - استخدمت خلالها المدافع الرشاشة الثقيلة والأسلحة المضادة للطائرات - بين عناصر من كتيبة طرابلس اعترضوا طريق مسلحين من بلدة الزنتان، والذين كانوا يحاولون دخول المستشفى المركزي في المدينة لقتل نزيل في عملية انتقامية.

وتوقعت الصحيفة أن يزيد هذا الحادث من الضغوط على «المجلس الانتقالي الهش» لنزع سلاح «الثوار المتمردين»، الذين لا يزالون منتشرين في مختلف أرجاء الدولة الجديدة.

ويوضح المحللون أن هناك صراعا مستعرا في النفوس، بدت سماته في «مقاطعة» غير معلنة من جهة ثوار الغرب لحضور الاحتفال الذي أقيم في عاصمة ثوار الشرق بنغازي، لإعلان تحرر الدولة. ويتخوف هؤلاء المحللون من أن يتطور ذلك الخلاف الداخلي لاحقا إلى انقسام على أرض الواقع، مما قد يهدد بتمزيق أواصر الدولة الوليدة.

من جهة أخرى، يرى الكثيرون أن تصاعد قوة التيارات الإسلامية في ليبيا قد يحمل مخاطرة محتملة، وقد يفقدها اهتمام بعض القوى العالمية، وبخاصة بعدما فسر الغرب تصريحات رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل، في إعلان التحرر، بكونها تحمل توجها إسلاميا لا لبس فيه، مما قد لا يروق لبعض تلك القوى.

ورغم أن إذابة كل تلك الأنماط الخلافية قد يحتاج إلى أعوام أو شهور، فإن تلك المشكلات تبقى في حيز المقبول والمتوقع. وقد يصنفها البعض على أنها صنف من «الغيرة»، سواء بمعناها الحميد أو الخبيث، لكن دواعي الانتقام بين الطوائف التي تقاتلت طيلة نحو 8 أشهر، تظل أبرز الهواجس التي تهدد الجمهورية المحررة من عبء حكم ديكتاتوري استمر نحو 42 عاما تحت إمرة العقيد معمر القذافي.

ومنذ اليوم الأول للتحرر، تناثرت الاتهامات حول حقيقة وأسباب وطريقة موت القذافي ذاته، وإن كانت ملابسات ذلك عرضية أم أنها انتقامية بحتة خارج إطار المحاكمات. ورغم مطالبة المجتمع الدولي بالتحقيق في تلك الملابسات، وهو الأمر الذي استجاب له المجلس الانتقالي بالفعل عبر تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق، فإن أنصار القذافي توعدوا بالرد بقسوة على مقتله، وبايع أبناء عدد من القبائل ابنه سيف الإسلام لخلافته في ما أطلقوا عليه اسم «معركة التحرير» ممن سموهم «ثوار حلف الناتو».

ثم تتابعت المشاهدات المتوالية التي تحمل ذات المضمون، بداية من العثور على عشرات الجثث التي يبدو أنها تعرضت لإعدام جماعي (وهو ما ترجحه علامات مثل الأيادي المقيدة والإصابات المباشرة بالرأس) في مدينة سرت، أغلبها تم التأكد من كونها تنتمي لمناصري القذافي. كما حذرت منظمات دولية حقوقية، منها «هيومان رايتس ووتش»، من هجمات انتقامية تستهدف الموالين للقذافي على مدار الأسبوع الماضي.

وذكرت المنظمة الأحد الماضي أنه بناء على ما توفر لديها من تقارير، فإن ميليشيات في مصراتة تنفذ هجمات انتقامية، وتطلق النار على السكان العزل والمشردين من بلدة تاورغاء القريبة، التي كانت من معاقل الموالين لمعمر القذافي، فضلا عن عمليات اعتقال وتعذيب تعسفية، أفضت إلى وفاة بعض الضحايا، إضافة إلى تعدد حالات النهب وإضرام النار في منازل.

ويبدو واضحا للعيان اقتناع الميلشيات بأن «سكان تاورغاء لا ينبغي السماح لهم أبدا بالعودة إلى ديارهم، بعد ما فعلوه في مصراتة»، للدرجة التي دفعتهم لمحو اسم تاورغاء من على لافتات الطرق المؤدية للمدينة، وكتابة اسم مصراتة بدلا منها.

واتهمت سلطات مصراتة وسكانها على نطاق واسع سكان تاورغاء بارتكاب جرائم خطيرة إلى جانب قوات القذافي، بينها عمليات قتل واغتصاب. بينما قالت سارا ليا ويتسون، مديرة هيومان رايتس ووتش للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في بيان للمنظمة إن «عمليات الانتقام ضد سكان تاورغاء، مهما كانت الاتهامات الموجهة لهم، تقوض غاية الثورة الليبية»، مشيرة إلى أنه «ينبغي في ليبيا الجديدة مقاضاة المتهمين من سكان تاورغاء على الاتهامات الموجهة إليهم بالاستناد إلى القانون، وليس عبر الثأر الشخصي».

وحاول المجلس الوطني الانتقالي الأسبوع الماضي استبقاء غطاء حلف الناتو الجوي، ولو لآخر العام، نظرا لما يوقن به المجلس من وجود صعوبات لوجيستية بحتة تواجهه في عدة مناحي، أبرزها مشكلة السلاح المنفلت والتهريب عبر الصحراء. وهي المشكلات التي قد تفاقم الوضع الداخلي بشدة في حالة نشوب اقتتال داخلي، لأي سبب وبين أي فئتين، في أي مرحلة قريبة، ولكن الناتو رفض التمديد، واعدا بمحاولة توفير حلول بديلة لإعانة الدولة الناشئة.

كما أبدت هيلاري كلينتون تفاؤلا في قدرة الليبيين على تخطي هذه الصعاب، وقالت إن قادة ليبيا الجدد «هم أشخاص عقلاء حقا»، وأنه - رغم كل الصعاب - فإن طبقة أصحاب الكفاءات في البلاد صمدت أمام النزاع، واعدة بدورها في نهاية حوارها مع «واشنطن بوست»: «سوف نساعدهم قدر ما استطعنا».