مصابون سوريون ينقلون سرا إلى بيوت في لبنان للعلاج.. ويتحدون الألغام المزروعة على الحدود

أحد الجرحى لـ «الشرق الأوسط»: أعيش بخوف في لبنان لأنهم يحاولون البحث عني

TT

في شقة متواضعة بمدينة طرابلس، يفترش جمال (اسم مستعار)، وهو شاب سوري في الثالثة والعشرين من عمره، سريرا صغيرا، حيث يعالج من إصابته في كتفه برصاص قناص على الحدود اللبنانية منذ 20 يوما. ويروي الشاب المصاب لـ«الشرق الأوسط» أنه كان يهرب برفقة شاب آخر في الـ19 من عمره، عندما أصيب برصاص قناصة. ويقول: «كنا نعبر ليلا الحدود فاستهدفنا برصاص القناصة، أصبت بكتفي وتم نقلي إلى أحد بيوت بلدة عكارية مجاورة للحدود، حيث عالجني السكان المحليون بطريقة سريعة إلى أن نسقوا مع أحد الناشطين الذي أمن لي دخولا إلى أحد المستشفيات الشمالية». وفيما لا يزال يتابع علاجه من قبل بعض المسعفين المتطوعين، يعيش جمال اليوم في حالة خوف رهيبة، لأن «الأمن السوري»، على حد قوله، «يحاول معرفة مكاني ليسحبوني ويقتلوني». إذا كان ضجيج السيارات و«الفانات» المتنقلة بين البلدات العكارية ومدينة طرابلس، يوحي بأن الحياة تمشي بشكل عادي، إلا أن اللافت أن الحياة تمشي بكثير من التوتر في منطقة عكار، التي قصدتها «الشرق الأوسط» مستطلعة. هذا التوتر زاده الوضع السوري شحنات إضافية. يرفض السكان الإفصاح عن مكان الجرحى السوريين، لكن الأكيد أنهم يتلقون علاجاتهم سريعا داخل مستشفيات المنطقة ومستوصفاتها، ثم ينقلون إلى البيوت سرا «خوفا على سلامتهم من أي محاولة لسحبهم وتسليمهم للأمن السوري»، كما يؤكد أحدهم لـ«الشرق الأوسط».

يسكن معظم النازحين السوريين الهاربين من الوضع الأمني في مدنهم السورية، في بيوت أهالي منطقة عكار الواقعة شمال لبنان، وفي مدارسها المهجورة ومساجدها. ويتجاوز عددهم بحسب «تنسيقية اللاجئين السوريين في لبنان» 7 آلاف نازح هناك، في وقت تفيد فيه المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والهيئة العليا للإغاثة بوجود 3.505 نازحين مسجلين لديها، وفق آخر تقرير أصدرته أمس حول أوضاع السوريين في شمال لبنان.

يعود الاختلاط العابر بين سكان المنطقة الحدودية اللبنانية - السورية إلى مئات السنين، نظرا لعلاقات القرابة والمصاهرة بين لبنانيين وسوريين. وعلى الرغم من أن العلاقة اهتزت بعيد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، فإنه بعد اشتعال الانتفاضة السورية عاد الارتباط ليقوى ويشتد، خصوصا أن العكاريين صاروا أكثر سكان لبنان احتضانا للنازحين السوريين والجرحى الباحثين عن علاج لهم بعد إصابتهم، إما قنصا على الحدود اللبنانية - السورية، وإما نتيجة انفجار لغم بهم أثناء عبورهم الحدود في الأيام الأخيرة.

وقد زرعت السلطات السورية ألغاما مضادة للأفراد، على طول الحدود مع لبنان، وانفجر لغم بشاب سوري قبل يومين خلال اجتيازه الحدود. ووفق أحد الناشطين السياسيين، فإن زرع الحدود بألغام سورية يهدف لـ«استهداف الهاربين من الجرحى والعائلات السورية». وفق ناشطين ميدانيين، لا إحصاء لعدد الجرحى المصابين بالألغام، خصوصا أن التكتم «سيد الموقف» لـ«دواع أمنية بحتة».

ففي منطقة عكار المحافظة، تبدو مشاهد الفقر فاقعة. عمال سوريون يعملون في المشاتل الموزعة على طرفي أوتوستراد العبدة الدولي. تغرق سيارة الأجرة، في الطريق إلى منازل تؤوي جرحى سوريين، في حفر مليئة بمياه الأمطار الهاطلة. في قرية فقيرة قريبة من حلبا (العاصمة الإدارية لعكار)، يعالج ماهر (اسم مستعار)، شاب سوري آخر، في بيت صغير. ورغم إصابته العميقة لم يندم على خروجه بعد صلاة الجمعة الماضية في مظاهرة سلمية في مدينة القصير السورية القريبة من الحدود مع لبنان، كما يؤكد. أصيب ماهر في فخذه، وأسعفه الأهالي في البساتين القريبة وتم نقله إلى لبنان ليتلقى العلاج الطبي المناسب.

في الغرفة الصغيرة، يجلس ابن الـ25 على سريره، لا يزال رفيقاه يساعدانه على الدخول إلى الحمام، يقول ماهر بحزم إن «الإصابة لن تخضعه للأمر الواقع وفور شفائه سيعود إلى سوريا ويتظاهر مع المتظاهرين إلى حين إسقاط النظام». ماهر شاب أعزب يعمل في مهنة البلاطة. يروي قصته بحذر، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «خرجنا بمظاهرة من أحد المساجد في جمعة (الحظر الجوي) في مدينة القصير، وهوجمنا بالرصاص الحي من قبل عناصر من قوات الأمن السورية. أصبت برصاصة قناص ولم أعرف ما حصل معي بعد ذلك». يؤكد ماهر أنه نقل إلى لبنان بمساعدة «الشبان الأوادم» ليلا وتحت الظلام الدامس، وعلى الرغم من كل المخاوف من ألغام مزروعة، تم العبور به إلى أحد المستشفيات وتمت معالجته بطريقة سريعة ثم نقل إلى بيت «الشيخة» كما يلقبها الشبان السوريون.

«الشيخة» هي سيدة عكارية تطوعت لاستقبال الجرحى في بيتها، تؤمن لهم طعامهم وتغسل لهم ثيابهم، وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «سكان عكار يستقبلون الجرحى ويعيلونهم لأن هذا الأمر واجب إنساني وديني»، موضحة أنها استقبلت في بيتها «3 جرحى جراء إصابتهم في مظاهرات داخل سوريا». في غرفة ماهر، تطمئن ماجدة (اسم مستعار) بعد قدومها من سوريا على ماهر، أحضرت له دواء وغيرت على جرحه، تعمل ماجدة كمساعدة طبيب جراح ولديها خبرة طبية، قدمت إلى لبنان بعد إصابة أخيها، وتطوعت في إسعاف الجرحى. وتوضح ماجدة لـ«الشرق الأوسط» أن عددا من الشبان أسسوا «لجنة إسعاف» لمتابعة أوضاع الجرحى السوريين في لبنان والقيام بزيارتهم في البيوت لعدم القدرة على إكمال متابعتهم في المستشفيات لدقة الظروف وصعوبتها «بعد ملاحقتهم من قبل أشخاص تابعين للنظام السوري».

منذ 6 أشهر تقوم ماجدة بعملها متنقلة منذ الصباح من بيت إلى آخر. تقول إن «عددا لا بأس به من الجرحى موجودون في منطقة وادي خالد»، مؤكدة أنها قبل مجيئها لمعالجة ماهر، عالجت جريحين أصيبا بلغمين في الحدود. وتشير إلى أن «المصاب الأول هو صبي في الـ13 من عمره من محافظة حماه، كان يهرب من رصاص القناصة وهو يعبر الحدود إلى لبنان، فانفجر لغم في يده، والآخر شاب في الـ22 من عمره أصيب برجله». وتؤكد ماجدة أن «أهالي عكار لم يتوانوا عن مساعدة الجرحى وإيوائهم وصار كل واحد منهم، حسب قدرته المالية، يتبرع بقيمة علاجه والحاجات المستوجبة بعد ذلك من العكاكيز إلى الأدوية والنقل من مكان إلى آخر»، مشيرة إلى «وجود جرحى في منطقة عرسال البقاعية».