ليبيا تواجه أربعة عقود من جرائم الماضي.. بحثا عن المصالحة

وزير العدل الليبي: على مدار أشهر كنا نطلب من الناس التحلي بالرحمة وعدم الأخذ بالثأر

TT

وصل عدد ضحايا محكمة الشعب ووكالة الأمن الداخلي ومحكمة أمن الدولة تحت حكم العقيد معمر القذافي إلى عشرات الآلاف، في ظل الاغتيالات والاختفاءات وعمليات الإعدام العلنية، بحسب مدافعين عن حقوق الإنسان داخل ليبيا وخارجها، والسؤال المطروح هو: كيف سيتصالح الليبيون مع ماضيهم؟

يبدو الحاضر والمستقبل مروعين بالقدر الكافي بالنسبة للسلطات المزعزعة الأركان الآن في ليبيا، لكن هناك الماضي الأليم الذي يجب وضعه في الاعتبار أيضا, فأربعة عقود من جرائم حكومة القذافي قد خلفت جراحا تستحق الاهتمام.

ويفكر القادة في الحكومة المؤقتة في خيارات لكشف السجل الطويل من الاغتيالات وصور التعذيب، متطلعين إلى نماذج من جنوب أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية. وهم يقولون إنهم مدفوعون بقناعة، مفادها أنه لا يمكن بناء دولة جديدة من دون تسليط الضوء على الجوانب المظلمة من الدولة القديمة. وتجري عملية وضع تفاصيل خطة، على نحو مشابه كثيرا لمناطق أخرى، في دولة تبدو وكأنها تحاول أن توقظ نفسها من كابوس طويل مزعج. لكن وزير العدل في الحكومة المؤقتة، الذي له باع في السجال القانوني مع حكومة القذافي من الداخل والخارج، ذكر أنه كانت هناك خطة تمهيدية تشمل تحقيق وجلسات عامة واتهامات، مع رجوع التحقيقات إلى الأيام الأولى من وصول العقيد القذافي إلى سدة الحكم، في عام 1969.

وعن أسلوب العمل، قال وزير العدل في الحكومة الانتقالية، محمد العلاقي: «نحن ننظر إلى تشيلي والأرجنتين وجنوب أفريقيا، وقد أخذنا جزءا من جنوب أفريقيا»، مشيرا إلى أسلوب مفوضية الحقيقة والمصالحة، الذي أكد على تقصي الحقائق والمحاسبة بدلا من العقاب. والأمر الأكثر أهمية، الذي أشار إليه العلاقي في مقابلة في وزارة العدل، هو ضرورة أن يواجه الليبيون الجرائم التي ارتكبت في حقبة القذافي، في دولة لم تكن فيها وسائل إعلام مستقلة للكشف عن تلك الجرائم.

وتلك الأولوية يجب أن تسبق توجيه الاتهامات وفرض العقوبات، على حد قول العلاقي، وهو قيادي سابق في نقابة المحامين في ليبيا، فضلا عن عمله فيما سبق كمسؤول رفيع المستوى بمنظمة عرفت باسم «منظمة حقوق الإنسان» إبان حكم القذافي، بحسب منظمة «هيومان رايتس ووتش».

وعلى الرغم من ذلك، فقد أشارت خبيرة في الشؤون الليبية إلى أن العلاقي قد عرض الكثير من قضايا حقوق الإنسان على المنظمة، على نحو جعله عرضة للمخاطر.. «كان كثير من المحامين يذهبون إلى العلاقي طلبا لمساعدته»، هذا ما قالته هبة فاطمة مورايف، باحثة لدى منظمة «هيومان رايتس ووتش». وأضافت: «إنه يتحمل مخاطرة تزويدي بالمعلومات».

وذكر العلاقي في مقابلة أجريت معه هذا الأسبوع أنه سيتم تشكيل لجنة استقصائية «لتعريف عامة الناس بما حدث، من أجل إظهار الحقيقة»، وقال: «بعدها، ستجري محاكمات عادلة للجميع».

ولم يقدم أي تفاصيل عن اللجنة، قائلا إنه تم اقتراحها فقط في سياق مسودة قرار قيد الدراسة الآن من قبل الحكومة المؤقتة الممثلة في المجلس الوطني الانتقالي. بالطبع، في ظل عدم وجود مؤسسات، وحاجة النظام القضائي إلى إصلاحات هيكلية، والميليشيات المنتشرة بمختلف أنحاء دولة لم ينزع منها السلاح بعد، ستكون تصفية حسابات الماضي بمثابة نهج خاطئ. إضافة إلى ذلك، كانت هناك أيضا أدلة على حوادث قتل انتقامية، غير أن هناك بالفعل مؤشرات تدل على أنه حينما يحين الوقت، لن يتم التستر على جرائم القذافي، الليبيون فزعون منها، حتى لو لم يكونوا على دراية بجميع تفاصيلها، كما قد أظهر مسؤولون مثل العلاقي أنهم يفكرون فيها أيضا. وأوضح: «لإعادة بناء المجتمع، يجب أن يعرف الناس الحقيقة كاملة»، هكذا تحدث العلاقي. وأضاف: «لا يمكنك أن تتخيل إلى أي مدى عانى الناس على مدار 42 عاما. لقد اغتصبوا النساء على مرأى من آبائهم وإخوانهم».

لكنه كان حذرا في الإشارة إلى أن التركيز يجب أن ينصب على القصاص، في إشارة إلى الروابط المستمرة بين النظامين القديم والحديث، وحقيقة أن البعض من داخل المجلس الوطني الانتقالي لعبوا أدوارا في حكومة القذافي. وانطوت كلماته على اعتراف بأنه بدرجة ما لعب كل شخص دورا في دعم النظام السابق وأن التطهر، وليس العقاب، هو النقطة المهمة.

«المهم ليس العقاب أو الانتقام»، هكذا تحدث وزير العدل، وأضاف: «ما يجب أن يعرفه الناس هو: مَن المسؤول عن حوادث الاغتصاب؟ بعدها، تجري المحاكمات». واستكمل قائلا: «بعد ذلك، ربما نطالب بقانون للعفو عنهم».

غير أن معاونا يجلس على طاولة المؤتمرات الطويلة توجه باعتراض سريع: «باستثناء جرائم القتل والاغتصاب»، هذا ما قاله نور الدين الجليدي، مدير قسم المعاهدات القانونية بوزارة الشؤون الخارجية، مشيرا إلى أن هؤلاء الذين لوثت أيديهم بالدماء يجب معاقبتهم، بناء على معيار الشعور بالذنب الذي قد وظفته دول أخرى تسعى للمصالحة بين الماضي والحاضر، مثل ألمانيا.

وقال العلاقي إنه يجب أن ينصب محور تركيز وكلاء النيابة على العشرات من المسؤولين في عهد القذافي ممن تورطوا في أسوأ الانتهاكات، الذين كان بعضهم بالفعل رهن الاحتجاز.

وقال: «الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لنا هم الأفراد الذين يقودون هذه الجرائم. إن عددهم لا يزيد على 20 إلى 25 شخصا».

وبعد مرور أقل من أسبوعين على مقتل العقيد القذافي على أيدي المقاتلين الذين عثروا عليه في مسقط رأسه، سرت، كانت أمام الحكومة الانتقالية الكثير من المشكلات الملحة التي يجب أن تركز عليها. غير أن المسؤولين يدركون مدى الحاجة إلى «وضع نظام عدالة» لوقف التعطش للانتقام. وقال العلاقي: «على مدار أشهر، كنا نطلب من الناس التحلي بالرحمة وعدم الأخذ بالثأر». هناك درجة من نفاد الصبر مقترنة بهذا الأسلوب. إن المجلس الانتقالي لم يجر بعد مناقشات «كافية» حول جرائم الماضي، هذا ما قاله جلال الغلال، متحدث باسم المجلس.

وقال جلال: «الوضع لا يعكس الحالة النفسية الفعلية للشعب. لقد ظل الشعب يعاني لفترة طويلة. ومعظم من كانوا مع النظام السابق ما زالوا ينعمون بحريتهم، وهي إشارة جيدة للتسامح»، غير أنه أشار إلى أن هناك رغبة أكثر إلحاحا في الشوارع في الأخذ بالثأر.

لقد أعطى المجلس الانتقالي في ليبيا إشارات في الأيام الأخيرة تدل على أن عقود حكم العقيد القذافي التي حفلت بالآثام والأعمال الإجرامية لم تمح من الذاكرة. وأصدر المجلس قائمة بتلك الاتهامات، بعد أن عبرت المنظمات الدولية عن مخاوفها بشأن ما ظهر على أنه تنفيذ لحكم الإعدام على القذافي من قبل المقاتلين الذين ألقوا القبض عليه، وأشار المجلس الوطني للعقيد بمسمى «الطاغية» وقال إنه كان مسؤولا عن قتل جماعي لضباط في عام 1977، والإعدام شنقا لطلاب الجامعات، ومزيد من وقائع الإعدام شنقا في شهر رمضان في عام 1984، وقتل ما يربو على 1200 سجين، كثير منهم معتقلون سياسيون، في يوم واحد بسجن أبو سليم في عام 1996.

وبدت الرسالة التي نقلها المجلس إلى العالم واضحة: «أي إساءة معاملة للقذافي من جانب الثوار لا يمكن مقارنتها بالجرائم الشنيعة التي ارتكبها بحق شعبه».

في الوقت نفسه، وفيما يحتمل أن يمثل مؤشرا للطريقة التي سيتعامل بها المجلس الانتقالي مع الماضي، ظهرت محاولة لاتباع نهج جديد من المكاشفة والوضوح من جانب الحكومة؛ ففي يوم الأحد الماضي، جلس وزراء الحكومة الانتقالية على منصة بجامعة إسلامية عند أطراف المدينة للرد على أسئلة موجهة من صحافيين باللغة العربية، وتقديم تقرير عن الطريقة التي يعتزمون إدارة وزاراتهم من خلالها، وحجم النفقات التي تكبدوها حتى الآن وخططهم المقبلة.

إنها تبدو لحظة شفافية ومحاسبة رسمية نادرة الحدوث. وكان العلاقي حاضرا أيضا، يرنو من وراء نظارته السميكة ويعد بـ«إجراء محاكمة إنسانية وحماية حقوق الإنسان»، إضافة إلى تعقب أفراد حاشية العقيد القذافي الذين بحثوا عن مأوى بالخارج. وقال العلاقي: «أرغب في أن يشاهد العالم والمجتمع الدولي هذه المحاكمات».

* خدمة «نيويورك تايمز»