عباس الفاسي.. رجل إلحاح ترضيه التسويات

«الاستقلاليون» الحل معهم متعب ومن دونهم مستحيل

عباس الفاسي
TT

في واحدة من المرات النادرة التي تحدث فيها عباس الفاسي، الأمين العام لحزب الاستقلال للصحافيين، ظل يكرر باستمرار تعبير «الوزير الأول» بدلا من «رئيس الحكومة». والمفارقة أن الفاسي كان في واقع الأمر آخر «وزير أول» وأول رئيس حكومة في ظل الدستور المغربي الجديد. كان يفترض أن تطرح عشرات الأسئلة على الفاسي، وهو يطل لأول مرة منذ توليه منصبه في عام 1998 عبر مؤتمر صحافي، لكن ثلاثة من الصحافيين فقط طرحوا أسئلة، والتزم الآخرون الصمت. جاء الفاسي إلى المؤتمر الصحافي حيث قدم برنامج حزبه ومرشحيه، وهو يرتدي بذلة رمادية مخططة، دون رابطة عنق، ربما ليضع مسافة بين منصبين: «رئيس الحكومة»، الذي سيظل يشغله حتى أواخر الشهر الحالي، و«الأمين العام لحزب الاستقلال»، الذي يفترض نظريا أن يبقى فيه حتى عام 2014.

نظاراته الطبية تتدلى فوق أرنبة أنفه. رأس شعره والحاجبان اشتعلا بياضا. حليق الذقن والشاربين. يتحدث بصوت هادئ. خجول التصرف ومتحفظ. يعبر عما يجول بخاطره بلغة غير مباشرة. يحرص على انتقاء تعابيره، بحيث تتحمل كلماته جميع التأويلات. يختار التلميحات بدلا من الإشارات الواضحة. يضع دائما ابتسامة، ويترك للآخرين مهمة تأويلها. يتحكم في الكلمة، بالتقليل من الكلام والحرص على أن يبقى مبتسما مع تحريك يديه ببطء. من الواضح أنه رجل حديث وليس رجل خطابة. يميل إلى مفاوضات الكواليس أكثر من التصريح بمواقفه علنا. يعتمد المثابرة والإلحاح ليصل إلى الحلول الوسطى. ترضيه التسويات. السياسة عنده أن يبقى «السياسي» بعيدا عن الإعلام. طوال رئاسته للحكومة كان الفاسي يفضل ألا يتحدث عنه الصحافيون، وهو أصلا لا يتحدث معهم إلا نادرا. لا يتحمل الانتقاد وإذا تحمله فعلى مضض. خلال مؤتمره الصحافي كرر أكثر من مرة كلمة «هدوء». لعله أدرك أن الانتخابات المغربية هذه المرة، تتعلق بالتغيير لا بالخبرة.

لا يفتش عن المشورة، وإذا وصلته لا يأخذ منها إلا ما يعجبه. بمقدوره أن يحارب بالآخرين ويتخلى عن خساراتهم. براعته في غموضه وغموضه جزء من شخصيته.

عباس الفاسي المتحدر من فاس بدأ مشواره مع حزب الاستقلال منذ بداية عقد الستينات من القرن الماضي. ولد في بركان (شرق المغرب) في سبتمبر (أيلول) 1940. ودرس المرحلتين الابتدائية والثانوية في القنيطرة وطنجة. خلال دراسته الجامعية في الرباط كان «نقابيا» وسط الطلاب، وتولى رئاسة «الاتحاد العام لطلبة المغرب» الموالي للاستقلاليين.

تخرج عام 1963 من جامعة محمد الخامس، حيث حصل على إجازة في الحقوق، ليصبح بعد ذلك محاميا في الرباط، شارك سلفه محمد بوستة مكتبا للمحاماة. كان ذلك عام 1964. أصبح نقيبا للمحامين عام 1975. على المستوى الحزبي تدرج في المؤسسات الحزبية، حيث انتخب عام 1962 عضوا في «المجلس الوطني للحزب» وهو بمثابة «برلمان الحزب» ثم عضوا في «اللجنة التنفيذية» عام 1974، وهي أعلى هيئة قيادية للحزب، وبمثابة «مكتب سياسي». في عام 1998 أصبح أمينا لحزب الاستقلال، وأعيد انتخابه عام 2003، على الرغم من معارضة بعض قادة الحزب، حجتهم أنه لا يجوز تولي قيادة الحزب لثلاث ولايات، لكنه تولى المنصب للمرة الثالثة. اختلف معه بعض القياديين، ولأن «الاستقلاليين» لا يقودون انقسامات، فقد فضلوا أن يبتعدوا إلى الظل. أحاط الفاسي نفسه بالموالين والمخلصين. أسلوبه في قيادة الحزب، هو أنه يرى فيه ماكينة يجب أن تدور تروسها في الاتجاه الذي يرغب فيه.

يعتبر الفاسي أيضا من القيادات المحظوظة، إذ تولى عدة مناصب وزارية باسم الحزب، حيث أصبح وزيرا للإسكان عندما دخل حزب الاستقلال الحكومة عام 1977، وبقي يشغل هذا المنصب حتى عام 1981، ثم أصبح وزيرا للصناعة التقليدية والشؤون الاجتماعية من عام 1981 حتى عام 1985. وبعد تلك الفترة انتقل سفيرا في تونس ثم باريس. وهي فترة جعلته قريبا جدا من القصر الملكي، حتى ظن كثيرون أنه ترك العمل الحزبي. في مارس (آذار) عام 1998 عندما قرر الملك الحسن الثاني أن يتولى الحزب المعارض «الاتحاد الاشتراكي» رئاسة الحكومة، وعين عبد الرحمن اليوسفي رئيسا للوزراء، شارك «الاستقلاليون» في «حكومة التناوب»، لكن الفاسي الذي لم يكن ضمن وزراء حزب الاستقلال، وضع الكثير من العصي في دواليب تلك الحكومة، وهو أمر أثار استياء اليوسفي وغضبه، لكنه اضطر إلى تعيينه وزيرا للعمل عام 2000 لكبح معارضته. تأسس حزب الاستقلال في أربعينات القرن الماضي لمواجهة الاحتلال الفرنسي. وظل مؤسسه علال الفاسي، زعيما كاسحا في مغرب ما قبل الاستقلال وما بعده. جمع أهم ثلاث صفات يمكن أن تميز السياسي «الشخصية الزعامية والنضال والثقافة». وخلف الفاسي بعد وفاته أثناء زيارة عمل إلى رومانيا، بعد أن داهمته أزمة قلبية، محمد بوستة، وهذا سياسي براغماتي يعرف كيف يقول «نعم» ومتى يقول «لا».

في السياسة المغربية اختار «الاستقلاليون» معادلة تبدو بسيطة، لكنها شديدة التعقيد. مؤداها أن الحل معهم متعب ومن دونهم مستحيل. يرددون عادة نشيدا كتب كلماته علال الفاسي، مقدمته تقول «الحرية جهادنا حتى نراها.. والتضحية سبيلنا إلى لقاها». «الاستقلاليون» حريصون على الدفاع عن بعضهم البعض تجاه غير «الاستقلالي» لكنهم عندما يصبحون مع بعضهم البعض يتقاتلون. هم دائما يرغبون أن يكونوا «حزبا صعبا، تستهويهم الصراعات الصعبة»، وحين يجنحون بشعاراتهم يقولون «الحرية لنا لا لغيرنا». إنهم خليط من التشدد والمرونة، الانفتاح والانغلاق، السياسة وتنازلاتها، الأخلاق ومشاقها، الاعتدال والوسطية. خليط أيضا من التقليديين والتكنوقراط، الحزب والنقابة، الشيوخ والشباب. إنهم الماضي الذي يود أن يصبح حاضرا، والحاضر الذي يستند على الماضي. يحرصون على الحضور في جميع الأمكنة، وأن يكونوا هناك في جميع الأزمنة. رغبتهم الدائمة الحضور في الزمان والمكان.

عباس الفاسي، حاملا فوق كتفيه سبعة عقود، يعتقد أن «الحزب قادر على تلبية طموح المغاربة والفوز بالمرتبة الأولى في الانتخابات». الاستقلاليون يرفعون هذه المرة شعار «الوطن دائما».