أمازيغ ليبيا يسعون لإثبات هويتهم بعد عقود من المعاناة مع نظام القذافي

يعملون من أجل الحصول على اعتراف صريح بعرقيتهم ولغتهم في أول دستور للبلاد

TT

نظرا لموقعها الرابض على قمة جبلية في قلب جبال نفوسة الليبية، غمرت أشعة الشمس مدينة كاباو العتيقة، هزت الموسيقى الصاخبة الصادرة من مكبرات الصوت العملاقة جنبات المدينة التي غصت بآلاف من البشر الذين قدموا للاحتفال بالرقص في شوارعها شديدة الانحدار.

ومع انتهاء الحفل، توجه الجميع إلى أعلى درج القلعة، حول مسجد ذي مئذنة وعلى جوانب الجبل، لوح المحتفلون بعلم الثورة الليبية (ذي الألوان الأحمر والأسود والأخضر)، لكنهم في الوقت ذاته كانوا يلوحون بعلم آخر بألوانه الخضراء والزرقاء والصفراء ورمز أحمر غريب.

حيا الجميع بعضهم بكلمة «أزول» قبل الانخراط في الغناء بلغة لا تنتمي إلى العربية. فكاباو موطن 10 آلاف شخص من الأمازيغ، والذين يعرفون أيضا بالبربر، ويتحدثون لغتهم الخاصة، ولديهم طقوسهم وعاداتهم، لكنهم تعرضوا لقمع شديد على يد الطاغية معمر القذافي.

كانت المدينة من أوائل المدن التي تنضم إلى الذراع الغربية للثورة، وقد أقيمت احتفالات الأسبوع الماضي للاحتفاء بقتلى الحرب والانتصار، كما احتفلوا أيضا بفرصة الأمازيغ في التعبير مرة أخرى عن ثقافتهم بعد 42 عاما من القمع، حيث تطالب الأقليات في ليبيا الحكومة الجديدة بالاعتراف بوجودها الذي أنكره عليها القذافي.

ويقول مصطفى أيوب، الطبيب الذي تحدث أمام الحشود التي حضرت الاحتفال: «هذه هي المرة الأولى التي نحصل فيها على حريتنا، ففي كل مرة كنا نحاول فيها رفع رؤوسنا، كان يتم سحقنا. الآن نستنشق عبير الحرية، وينبغي علينا أن نتذوقها ونلمسها».

ردد الرجال والنساء المبتهجون كلماته، وهم سعداء بالحديث باللغة الأمازيغية، التي كانت محرمة في ظل نظام القذافي، ورؤية العلم الذي يرفعه الأمازيغيون في كل أنحاء غرب أفريقيا، والذي لم يره الكثيرون في كاباو قبل الثورة على الإطلاق.

ويقول خالد سيدا، أستاذ الكيمياء الحيوية وأحد أبناء المدينة: «هذا ليس مجرد علم، إنه رمز لإرثنا». ويشرح أيوب أن اللون الأزرق في العلم الأمازيغي يرمز للبحر، والأخضر للجبال، أما الأصفر فيرمز للصحراء، والرمز الذي على العلم هو حرف من اللغة الأمازيغية.

يذكر أن أكثر من 15 مليون أمازيغي يعيشون في شمال أفريقيا، وعادة ما يطلقون على أنفسهم هذا اللقب، حيث يعتبرون كلمة البربر مصطلحا مهينا يرتبط بالهمجية. ويعتبر الكثيرون منهم أنفسهم من نسل السكان الأصليين لشمال أفريقيا الذين استقروا قبل آلاف السنين والذين اعتنقوا اليهودية والمسيحية قبل الإسلام.

ويقول مراد مخلوف، رجل أعمال في كاباو، والذي حارب مع الثوار: «هذا المسجد كان كنيسة من قبل»، وقد اصطحبنا في جولة إلى مبنى سميك الجدران إلى جانب الجبل، حيث كانت مجموعة من الشباب المسلم يصلون في قاعة حفرت على جدرانها رموز الصليب.

وقال مخلوف: «خلال حكم القذافي، لم يسمح لنا بالصلاة هنا». وأوضح «أن العادات المحلية لا تزال متأثرة بالمسيحية، حيث يوسم القمح المحصود بالصليب وعمليات الختان والزواج تجري أيام الآحاد». وأشار إلى أن منع استخدام الكنيسة القديمة في الصلاة كان وسيلة لطمس ثقافة مميزة.

وفي ظل القذافي، يزيد قائلا «كان يحظر علينا الحديث أو الكتابة أو الغناء بالأمازيغية، وكان الاعتقال أو الضرب على يد القوات الأمنية، التي كانت تقوم بتحطيم المحال التجارية التي تكتب نصوصا أمازيغية، نصيب كل من يجرؤ على مخالفة ذلك. لكن المادة الأولى من الدستور المؤقت الآن تضمن الحقوق الثقافية لكل مكونات المجتمع الليبي، وتصف اللغات الليبية بأنها لغات وطنية».

ويقول خالد إبراهيم، مسؤول محلي، في سوق تبيع المنتجات الأمازيغية التقليدية: «أعتقد أن القذافي كان يرغب في القضاء على الشعب الأمازيغي وأن يمحوهم من التاريخ. هناك علماء وأشخاص آخرون في السجن، لقد كان القذافي يخشى من تشكيلهم حزبا سياسيا».

وخلال نشأة القذافي في الخمسينات، كانت القومية العربية الآيديولوجية هي المهيمنة على منطقة شمال أفريقيا، وروج لها الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر. ويقول المؤرخ رونالد بروس سان جون، مؤلف كتاب «ليبيا من الاستعمار إلى الثورة»: «لم يكن هناك مكان للأقليات العرقية في رؤية القذافي الداعمة للقومية العربية».

وتعرضت الأقليات الأخرى التي تعيش بعيدا عن المراكز السكانية الساحلية للحرمان هي الأخرى من حقوقها الكاملة في ظل نظام القذافي. فقومية التبو، الذين يسكنون جنوب البلاد، ويتحدثون لغة خاصة بهم، أعلنت منظمة العفو الدولية في عام 2009 أن أفرادها أجبروا على النزوح من منازلهم، ورفضت الحكومة منحهم وثائق رسمية وألقي القبض على المئات منهم.

انتهاء مثل هذه التفرقة كان دافعا قويا لبعض الشباب الذين شاركوا في الثورة، وقادوا المدينة إلى أشهر من الموارد المحدودة من الماء والكهرباء والمواد والغذائية، في الوقت الذي أطلقت فيه القوات الموالية للقذافي قذائف المدفعية على المناطق السكنية.

ويسعى الكثير من السكان الأمازيغ للحصول على اعتراف صريح بعرقيتهم ولغتهم، عندما تكتب الحكومة المنتخبة أول دستور في البلاد، حتى إن البعض منهم يقولون إنهم قد يلجأون إلى السلاح مرة أخرى إذا ما اقتضى الأمر.

ويقول جمال عيسى، عضو الحكومة المؤقتة، وأحد سكان كاباو، إن المسؤولين السياسيين ناقشوا الأمر في طرابلس. ويضيف «أعتقد أنهم سيحصلون على مبتغاهم، في الدستور الجديد، لكننا سنمارس الديمقراطية ولن نصوت على الدستور وسنلتزم بالنسخة النهائية».

ويروي جحا أبو أشكيوات (23 عاما) كيف شاهد أصدقاءه يموتون في القتال، وعبر عن رغبته في الاستفادة وتعلم القراءة والكتابة باللغة التي عاشت حية منطوقة غير مكتوبة. ويقول: «كانت لدينا قاعدة في المنزل، وهي ألا نتحدث العربية. ولو أن أمي سمعتني أتحدث العربية كانت تضربني، فهي لم تكن تريدني أن أنسى اللغة».

وتقول فادية سليمان، المعلمة التي بدأت تدريس الحروف الهجائية للغة الأمازيغية لطلابها، إنها توقفت عن ذلك لأن عددا قليلا من الأفراد فقط هم القادرون على معرفة كيفية كتابة اللغة.

وسط هذا الإقبال الكبير على تعلم اللغة الأمازيغية، تأمل تيرا، وهي واحدة من مئات المنظمات التي تأسست في طرابلس في تدريس القراءة والكتابة. لكن مدير المنظمة مدغيس بوزخار، يشير إلى أنه نتيجة لانتقال اللغة بصورة شفوية عبر الأجيال لم يتبق سوى عدد قليل من النصوص الأمازيغية. بيد أنه يخطط لجمع القصص والأشعار.

ويفكر بوزخار في دعوة مدرسين أمازيغ من مناطق أخرى في شمال أفريقيا لتعليم الليبيين القراءة والكتابة باللغة الأمازيغية، لكنه يعود فيقول: «من الأفضل أن تكون نهضتنا بأيدينا، فهؤلاء القوم حاربوا ونالوا ما أرادوا».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»