قلب ميدان التحرير يئن من مشاهد الألم والدماء والضحايا

متظاهرون كتبوا أرقام هواتفهم على أذرعهم وأم تبحث عن نجلها وأحدهم فقد عينه الثانية

متظاهر مصري يعرض فوارغ قنابل مسيلة للدموع في التحرير أمس (أ.ب)
TT

في واحدة من اللقطات المؤثرة التي يعيشها ميدان التحرير، أيقونة الثورة المصرية بالعاصمة القاهرة، وبعد ثلاثة أيام من الاحتجاجات الدامية بين المتظاهرين وقوات الشرطة والجيش، كتب عدد من المعتصمين السلميين الموجودين بالميدان أرقام هواتفهم على أذرعهم وأيديهم حتى يسهل الاتصال بذويهم في حال إذا ما استشهدوا، مصرين في الوقت نفسه على مطالبهم في وطن حر وديمقراطي. بالتوازي مع هذا المشهد هرول «ناصف علي» حاملا طفلته الصغيرة، واضعا يده على عينيها لحمايتها من رائحة قنابل الغاز المسيلة للدموع المنتشرة في أرجاء المكان محاولا بقدر الإمكان الاختفاء بين أعمدة أسوار المتحف المصري القريب من الميدان، في موقف أعاد للأذهان مشهد الطفل الفلسطيني محمد الدرة، ولكن هذه المرة في قلب ميدان التحرير، الذي بدأ يئن من وطأة مشاهد الألم والدماء وكثرة الضحايا.

ناصف، 33 عاما، همس غاضبا ومتحدثا مع نفسه: «مين اللي بيعمل فينا كدا؟ مين اللي ليه مصلحة في دا؟ مين اللي بيقتل ولادنا؟»، أسئلة ناصف الحائرة ربما تساعد الجميع على فهم ما يحدث الآن في مصر، ولكن فقط إذا وجد لها إجابة، لقد كان ناصف ذاهبا لبيته بشارع بورسعيد القريب من محيط ميدان التحرير، وبصحبته ابنته الصغيرة، ولكنه حوصر داخل الميدان محاولا إيجاد طريق للخروج بحثا عن طريق آمن لبيته هو وابنته، وما لبث أن هرب بابنته عندما وجد طريقا بناحية جامعة الدول العربية بعد ساعات من الرعب عاشها مع طفلته الصغيرة.

وبعيدا عن ناصف الذي هرب بابنته عن اشتباكات الميدان المستمرة بين الأمن والمتظاهرين، وقفت تهاني حسين (55 عاما)، بالقرب من مجمع التحرير تصرخ مشتبكة مع الشباب الذين حاولوا منعها من دخول الميدان خوفا على حياتها.. ولكن تهاني التي كانت تبحث عن ابنها الذي ذهب إلى الميدان ولم يرجع منذ يومين، اشتعلت في قلبها عواطف الأمومة وغلبت كل خوف يختلج صدرها وأصرت على الدخول وسط الاشتباكات التي لم تتوقف طوال الليل بحثا عن فلذة كبدها. ولم تجد تهاني بعد ساعات من البحث والقلق إلا أن تصب جام غضبها على التيارات الدينية، التي قالت إنها خطفت ابنها منها ودعته للنزول إلى الميدان يوم الجمعة الماضي، وقالت صارخة في وجه شاب ملتح حاول تهدئتها: «نزل للميدان وموبايله مقفول ولا أعرف أين هو! منهم لله (الإخوان)، هما اللي بيمشوا الولاد الصغيرة اللي مش عارفة حاجة وراهم عشان مصلحتهم.. ياخدوا السلطة بس يرجعولي ابني..».

ولكن قصص المارين بالميدان أو الباحثين عن ذويهم بين غباره خلفت وراءها أكثر من 1500 مصاب من شباب مصر، الذي نزل للميدان مطالبا بتسليم السلطة للمدنيين وبسرعة إنهاء الفترة الانتقالية التي يحكم البلاد فيها المجلس العسكري، كان بينها قصة «أحمد حرارة»، طبيب الأسنان الذي فقد إحدى عينيه في 28 يناير (كانون الثاني) الماضي، إبان المظاهرات المناوئة للرئيس المصري السابق حسني مبارك، التي أسقطت نظامه في 11 من فبراير (شباط) الماضي، وها هو يفقد عينه الأخرى أثناء الاشتباكات مع قوات الأمن المصري.. وقال حرارة من فوق سريره بمستشفى النور للعيون، حيث تم نقله عقب إصابته، أول من أمس: «أعيش كفيفا مرفوع الرأس وبكرامة أفضل من أن أعيش بمصر مكسور العين»، في رسالة وجهها إلى متظاهري التحرير بألا يتركوا أماكنهم حتى تتحقق مطالبهم.

ولم تكن النساء المصريات في اشتباكات التحرير أقل شجاعة من شباب التحرير، فنادين توفيق، التي تقطن بمنطقة جاردن سيتي الراقية، رفضت العلاج بإحدى عربات الإسعاف بعد إصابتها في الرأس عقب ارتطامها بالأرض، جراء التدافع، عقب الاشتباك مع قوات الأمن، وهربت من بين يدي المسعف الذي حاول تضميد جروحها مصرة على الاستمرار في الوقوف في الميدان، متناسية تلك الدماء التي تسيل على جبهتها صارخة بشدة: «أنا عاوزه أموت بس بكرامة..»، وما بين مصابي اشتباكات التحرير ومطالبهم بالحرية والعدالة يقف المجلس العسكري الحاكم في غيمة من الضباب وسط مشهد سياسي ملتبس قد يأخذ البلاد إلى منحى مغاير، قبيل انتخابات برلمانية، كان الجميع يأمل في أن تكون بداية طريق البلاد نحو ديمقراطية غابت عنها عقودا طويلة.