المستشفى الميداني بالتحرير.. سباق محموم مع الموت

نجح بإمكانات متواضعة في علاج مئات المصابين

طبيبان يحاولان إسعاف أحد المصابين في المستشفى الميداني («الشرق الأوسط»)
TT

على أرضية متربة تكسوها بطاطين خفيفة الطبقات، أقام المعتصمون في ميدان التحرير مستشفى ميدانيا في الحديقة الكبيرة بوسط الميدان، وأحاطوه بعصي خشبية قائمة؛ لتأمين الدخول إذا ما حدث تدافع.

يعمل بالمستشفى نحو 50 طبيبا متطوعا، وسط إمكانات متدنية، ونقص حاد في الأدوية المطلوبة لمعالجة مصابي الاشتباكات الدائرة في محيط الميدان، منذ عاد إليه آلاف المصريين للمطالبة بتسليم السلطة لحكومة مدنية. وبجوار خيمة كبيرة عُلقت عليها لافتة ورقية تحمل كلمة «الجراحة»، ارتمى في وضعية أقرب للجلوس شاب في العشرينات من العمر غائبا عن الوعي، بعد إصابته بطلق خرطوش في وجهه.. وفي محاولة لإنقاذه، أحاط به أطباء بدا عليهم التوتر الشديد؛ في ظل غياب كامل لإمكانات الجراحة. لكنهم نجحوا بعد جهد جهيد في إنقاذ عينه اليسرى التي تدفق الدم منها بغزارة.

قبل عدة أيام، كان المستشفى قائما في مسجد صغير خلف معقل الاشتباكات بشارع محمد محمود، حيث كان يستقبل عددا محدودا من الإصابات. لكن قوات الأمن المركزي دمرته أثناء الهجوم على ميدان التحرير مساء «الأحد» الماضي، لتعاد إقامته من جديد في الحديقة الكبيرة وسط الميدان، حيث أقام الأطباء خياما أخرى استخدمت كعنابر للمرضى.

وكما تلعب مواقع التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في حشد المصريين للمشاركة في المظاهرات، فإنها لعبت دورا مماثلا في دعوتهم للتبرع بالأموال والأدوية اللازمة لمعالجة مصابي التحرير، حيث تداول المصريون «أسماء أدوية مطلوبة»، بالإضافة لـ«دعوة الأطباء للنزول للميدان والمساعدة في رعاية المصابين». وهو ما أفرز عن تلقي المستشفى عددا كبيرا من التبرعات العينية من الأدوية وغيرها من العصائر والألبان، جمعت في زاوية ضيقة على يمين خيمة الجراحة حيث وقف أربعة من الصيادلة يصنفونها.. لكن المستشفى لا يزال يعاني نقصا في أدوية عدة.

وبينما كان عشرات المصابين يتدفقون على المستشفى بشكل متتابع، قال الصيدلي أحمد إبراهيم (27 عاما) إنه جاء للتحرير كي ينصر إخوانه ضد الظلم والظالمين، مضيفا بصوت غاضب «جئت لأهتف: (الشعب يريد إسقاط النظام).. الذي لم يسقط حتى اللحظة. جئت كي أقول إنه لا يجوز أن نلقي الثوار بجوار القمامة». فيما قالت زوجته رحاب عبد المجيد (26 عاما)، وهي تعد زجاجة من القطرة المصنعة من محلول يحوي خمائر الخبز لعلاج أعين المصابين من قنابل الغاز «أنا هنا لأنني لا أستطيع أن أتأخر عن المشاركة الإيجابية، خاصة في الوقت الذي يموت فيه الكثير من الناس»، المثير أن رحاب تركت ابنها زياد - ذا العامين - في رعاية أختها؛ كما تركت لها مفاتيح شقتها في حال لم تعد.

على نقيض أحمد، قال محمد إبراهيم (33 عاما)، وهو طبيب صيدلي يرسل تبرعات من الأدوية باستمرار للمستشفى، إنه يتبرع بالأدوية من صيدليته الخاصة بعيدا عن أي مواقف سياسية، قائلا «أفعل ذلك لإغاثة الملهوف وعلاج المصاب، والأهم رفع الظلم عن إنسان»، رافضا الكشف عن موقفه السياسي من الأحداث.

اللافت أن عددا كبيرا من المتطوعين بالمستشفى الميداني أطباء في السنة النهائية لكليات الطب المختلفة بمصر، تقول إحداهن وتدعى ميريت عازر «الوضع هنا مأساوي.. الإمكانيات المتوافرة قليلة والإصابات كثيرة جدا».

وبينما كان يرقد العشرات من المصابين أغلبهم باختناقات حادة، وقفت فتاة غير محجبة بزي أحمر مميز تجمع أسماء المصابين وأرقام هواتفهم لعمل حصر بعددهم وأسمائهم.. فيما كانت أخرى منتقبة توزع العصائر والألبان عليهم. وهو ما علق عليه طبيب يرتدي قلادة في عنقه قائلا «قالوا عن الجمعة الماضية إنها إسلامية.. واليوم مصر كلها في المستشفى باختلاف انتماءاتها الدينية والسياسية». وبعد أن أخذ نفسا عميقا وأزاح القناع الواقي من الغاز، قال الدكتور أشرف جابر، وهو طبيب أمراض جلدية، إن عدد الإصابات أكبر مما يمكن تخيله. وأردف بصوت حزين «نحن نستقبل مصابا كل نصف دقيقة، والعدد وصل لستة آلاف مصاب منذ الأحد». اللافت أن الأجواء داخل المستشفى لا تختلف كثيرا عن ساحة المواجهات، حيث تسيطر رائحة الغاز على كل أرجاء المكان. وأقام المحتجون بأجسادهم أطواقا لحماية المستشفى مشكلين طرقا للدخول وأخرى لخروج المصابين ونقلهم بسيارات الإسعاف لمستشفيات قريبة؛ في حال الفشل في علاجهم بالمستشفى الميداني.

أحد المتطوعين ويدعى عز علي (24 عاما)، يعمل نقاشا وجاء من أسيوط (في جنوب مصر) للمشاركة في مساعدة الشباب في التحرير، قال «أقوم بكل ما يمكنني القيام به.. أحمل الأدوية أحيانا، وأقف لتأمين المصابين أحيانا أخرى».

وبنبرة حازمة، قال مصطفى عبد الرحمن، شاب سلفي من القائمين على تنظيم المستشفى «أنا هنا بصفتي مصريا لا بصفتي شابا منتميا للتيار السلفي». وأضاف إبراهيم، الذي كان يرتدي جلبابا داكنا بعد أن مسح لحيته السوداء من آثار الخميرة التي تعد في المستشفى لمواجهة الغازات «نقوم بتأمين المستشفى وتنظيم العمل به.. كمواطنين مصريين لا ينتمون لأي تيار».