مانيلا عاصمة جديدة لمراكز الاتصالات العالمية

الفلبين تتفوق على الهند في قطاع التعهيد بسبب نوع الإنجليزية وحسن الخدمات

فلبينية تعمل في مركز اتصالات بمانيلا. وهناك 400 ألف فلبيني يعملون حاليا في خدمات التعهيد مقابل 350 ألف في الهند (نيويورك تايمز)
TT

بات من المرجح أن يتلقى الأميركيون، أثناء اتصالهم بخطوط خدمة العملاء الخاصة بشركات الطيران وشركات الهواتف والبنوك التي يتعاملون معها، ردا من مارك في مانيلا بدل باهارات في بنغالور. فخلال الأعوام الماضية، بدأت ثورة هادئة تعيد تشكيل قطاع مراكز الاتصالات، التي تجلت في صعود الفلبين، وهي مستعمرة أميركية سابقة تضم نسبة كبيرة من السكان الشباب الذين يتحدثون الإنجليزية بلكنة، ومتعمقون في الثقافة الأميركية، على عكس الكثير من الهنود.

يمضي عدد من الفلبينيين (نحو 400000)، يفوق عدد الهنود الآن، لياليهم في الحديث إلى عملاء، غالبيتهم أميركيون، بحسب مسؤولين في الصناعة، حيث استأجرت شركات مثل «إيه تي آند تي» و«جي بي مورغان تشيس» و«إكسبيديا» مراكز اتصالات هنا في الفلبين، أو أقامت مراكز خاصة بها. وقد أتت الوظائف من الولايات المتحدة وأوروبا، وإلى حد ما من الهند؛ إذ تبعت الشركات التي تلجأ لخدمات التعهيد عملاءها في الفلبين.

يوجد في الهند، التي حققت فيها مراكز الاتصالات الأجنبية شهرة كبيرة ونجاحا مبهرا، 350000 موظف بمراكز الاتصالات، بحسب بعض تقديرات الصناعة. وقد تفوقت الفلبين، التي يبلغ تعداد سكانها عشر تعداد سكان الهند، على الهند هذا العام، بحسب جوجو أوليغان، المدير التنفيذي لاتحاد مراكز الاتصال بالفلبين.

ويعكس التفضيل المتزايد للفلبين كلا من نضج قطاع التعهيد وتفضيل اللغة الإنجليزية الأميركية. في الأيام الأولى، ركزت الصناعة ببساطة على إقامة فروع في الدول التي تضم قطاعات ضخمة من السكان الذين يتحدثون الإنجليزية وتقل بها تكاليف العمالة، الأمر الذي قادهم إلى الهند. غير أن المسؤولين يشيرون إلى أنهم بدأوا الآن يكتشفون أماكن أخرى تعتبر الأفضل من نوعها لتنفيذ مهام معينة. على سبيل المثال، تظل الهند أكبر موقع للتعهيد في مجال البرمجيات. ويقول مسؤولون تنفيذيون إن النمو لم يكن مدفوعا باعتبارات متعلقة بالأجور. ويتقاضى موظفو مراكز التسوق الفلبينيون رواتب أكبر من نظرائهم الهنود (300 دولار شهريا، بدلا من 250 دولارا، بالنسبة للموظفين المبتدئين)، غير أن المسؤولين يشيرون إلى أحقية هؤلاء الموظفين في الحصول على الراتب الإضافي، لأن العملاء الأميركيين يجدون أن أسلوب حديث موظفي مراكز الاتصالات الفلبينيين أسهل في الفهم من أسلوب الموظفين الهنود الذين يتحدثون الإنجليزية البريطانية، ويستخدمون عبارات اصطلاحية غير مألوفة.

ويسهم في هذا الأمر أن الفلبينيين تعلموا الإنجليزية الأميركية في الصف الأول واعتادوا تناول البرغر ومتابعة مباريات كرة السلة الأميركية ومتابعة المسلسل التلفزيوني «فريندز»، قبل وقت طويل من انضمامهم للعمل بأي مركز اتصالات تابع لشركة أميركية. وفي الهند، بالمقارنة، يتم تدريس الإنجليزية البريطانية في المدارس الحكومية في الصف الثالث، ولا يتناول الوجبات السريعة الأميركية إلا النخبة من سكان المدن، كما تعتبر لعبة الكريكت هي اللعبة الوطنية الأساسية، ويعتبر مسلسل «فريندز» وسيلة تعليمية للمدربين في مراكز الاتصالات الهندية. وتعد الإنجليزية لغة رسمية في كلتا الدولتين.

تضم الفلبين «مزيجا فريدا بين سلوكيات حسن الضيافة والاهتمام والحنو التي تميز الشرق وما أسميه (الأمركة)» هكذا تحدث أباروب سينغوبتا، الرئيس التنفيذي لشركة «إيجيس غلوبال»، شركة التعهيد الكائنة في مومباي بالهند، التي استحوذت على شركة «بيبول سبورت»، التي تتخذ من مانيلا مقرا لها، في عام 2008، ويعمل بها الآن قرابة 13000 موظف فلبيني. وترفض الشركات الأميركية مناقشة استراتيجياتها الخاصة بالتعهيد، لكن بعض المسؤولين التنفيذيين أشاروا بشكل سري إلى أنه في وقت سابق، ركزت تلك الشركات بالأساس على ادخار الأموال. لكن مع اكتسابها الخبرة في دول مختلفة، أدركت أن هذه الاستراتيجية لم تكن الاستراتيجية المثلى. وقال مسؤول تنفيذي بإحدى الشركات الأميركية الضخمة التي تدير مراكز اتصالات بالفلبين: «ثمة جمل معينة يستخدمها الناس وعبارات اصطلاحية تشكل أهمية». وأضاف هذا المسؤول الذي تحدث بشرط عدم ذكر اسمه واسم شركته: «إن مستوانا في تحسن، ولكن آراء عملائنا هي أهم عامل يجب أن نضعه في اعتبارنا».

وأشار محللون إلى أن مراكز الاتصالات في الفلبين يبدو أنها قد ساعدت الشركات الأميركية في الرد على شكاوى العملاء الذين عبروا عن عدم قدرتهم على فهم الموظفين الهنود. لكن من غير المحتمل أن يرضي ذلك المنتقدين القائلين إن التعهيد ما هو إلا تحويل لكمّ هائل من الوظائف إلى الخارج، بينما يكافح ملايين الأميركيين بحثا عن فرص عمل. وعلى سبيل المثال، توقفت خطوط الطيران الأميركية عن تحويل خدمات العملاء إلى مانيلا وتعاقدت مع 400 موظف في أريزونا وكاليفورنيا ونورث كارولينا، كجزء من اتفاق مع اتحاد العاملين بالاتصالات في أميركا. وذكرت بعض الشركات الأميركية مثل «دلتا إيرلاينز» أنها نقلت مراكز الاتصالات مجددا إلى الولايات المتحدة للتخفيف من حدة غضب العملاء الذين يرغبون في التعامل مع موظفين يتحدثون الإنجليزية بشكل أفضل يمكن فهمه. ويحصل موظفو مراكز الاتصالات الأميركية المبتدئون على دخل قدره نحو 20,000 دولار سنويا، وهو ما يمثل نحو خمسة أضعاف ذلك الذي سيحصل عليه العاملون في مراكز الاتصالات في الفلبين وستة أضعاف الدخل الذي يحصل عليه الموظفون في مراكز الاتصالات بالهند.

وعلى الرغم من من ذلك، فإن المزايا المالية للتعهيد ما زالت قوية بالقدر الكافي إلى حد أن قطاع مراكز الاتصالات يشهد نموا تتراوح نسبته ما بين 20 إلى 30 في المائة سنويا هنا في الفلبين، مقارنة بنمو نسبته من 10 إلى 15 في المائة في الهند، بحسب سالي داني، مدير الأبحاث بشركة «إفرست غروب» المختصة بتعقب السوق.

يعمل بشركات التعهيد الأميركية مثل «آي بي إم» و«أكسينشر» و«كونفيرجيس»، إلى جانب شركات هندية مثل «إيجيس» و«إنفوسيس» و«تيك ماهيندرا»، آلاف الموظفين بأبراج زجاجية براقة، بل وحتى داخل مراكز تسوق، والتي يقول المسؤولون الإداريون بهذه الشركات إن الموظفين الشباب يفضلونها لأنها تتيح لهم أن يكونوا على مقربة من المتاجر والمطاعم. وإضافة إلى المهارات اللغوية، تمتلك الفلبين مرافق تحتية أفضل من الهند – لذلك، تنفق الشركات مبالغ أقل على المولدات ووقود الديزل. إضافة إلى ذلك، فإن المدن هنا أكثر أمانا وبها وسائل مواصلات عامة أفضل، ولذلك لا يتعين على أصحاب العمل نقل الموظفين بالحافلات من وإلى أماكن عملهم، مثلما يفعلون في الهند.

ثمة كثير من العاملين على شاكلة مارك، 26 عاما، الذي يرد على اتصالات الدعم الفني من موظفين بشركة صناعات كيماوية أميركية. درس مارك الهندسة، لكنه ترك الدراسة الجامعية لمساعدة والديه وأخويه الصغيرين. وهو يحصل الآن على راتب قيمته 26,000 بيزو (600 دولار) شهريا، نفس الراتب الذي يتقاضاه والده، الذي يملك شركة صغيرة لحافلات المدارس (متوسط دخل الأسرة في الفلبين 17,000 بيزو شهريا).

وقد تحدث شريطة عدم ذكر اسمه الكامل واسم صاحب العمل، لأنه لم يكن مسموحا له بالتحدث إلى الصحافيين. ويقع مكتبه في مدينة إيست وود سيتي، المقامة حديثا، الواقعة شرق مانيلا، والتي كانت عبارة عن حقول منذ بضعة أعوام مضت، بحسب سكان محليين. أما الآن، فأصبحت مقرا لشركات مثل «آي بي إم» و«ديل»، كما يوجد بها فرع لمطعم «مأكدونالدز» ومقهى «ستاربكس» وحانات تباع فيها المشروبات بأسعار مخفضة ابتداء من الساعة السادسة صباحا، للعاملين في مراكز الاتصالات الذين يرغبون في الحصول على مشروب بعد انتهاء ورديتهم. يبدو مارك نحيل القوام وتبدو ملامحه حادة. وهو يرتدي حذاء أنيقا من قماش القنب وقميصا مقلما. وتبدو لهجته أقرب إلى الأميركية منها إلى لهجة شرق مانيلا. وقال إن والديه جعلاه يشاهد الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الأميركية ويقرأ الكتب الإنجليزية ويتحدث اللغة الأميركية بدءا من سن الخامسة. غير أنه قال إنه قد تم فصله من أول وظيفة عمل بها في مراكز الاتصالات بعد أسبوعين بسبب شكوى العملاء من عدم قدرتهم على فهمه.

* خدمة «نيويورك تايمز»