بالتزامن مع العقوبات العربية.. النظام السوري يصعد أمنيا ويتحدث عن مؤامرة «كونية»

المناهضون مستعدون «لأكل التراب» كي يسقط الأسد.. والمؤيدون يزدادون تطرفا.. والأغلبية الصامتة تخشى المجهول

صورة بثها موقع سوري معارض لجانب من انتشار قوات الأسد في إدلب أمس
TT

كما يصعب التكهن برد فعل النظام السوري حيال الإجراءات والعقوبات العربية التي ستدخل حيز التنفيذ، يصعب وصف واقع الشارع السوري أمس مع ازدياد تعقيد المشهد، بينما يخيم الجمود على الحركة الاقتصادية عموما في البلاد، فما زال النظام يصعد عملياته الأمنية والعسكرية ضد المدنيين، في محافظات دير الزور وحمص وإدلب وريف دمشق، في المقابل بدأ الجيش الحرّ المعارض يبلور وجوده في الثورة السورية، ويطرح نفسه خصما لجيش النظام في معركة حماية المدنيين، في ظل انفلات أمني مرعب، وينذر في بعض المناطق باندلاع حرب أهلية، لا سيما في ريف محافظات حمص وحماه وإدلب. كل ذلك كان يزيد المحتجين المناهضين للنظام على الاستمرار في ثورتهم حتى إسقاط النظام، كما يزيد في المقابل حدة تطرف المؤيدين وترتفع دعوات القضاء على المحتجين بضربات ساحقة، أما الغالبية من الصامتين فهم هؤلاء الخائفون من المجهول الذي ستذهب إليه البلاد بعد سقوط النظام.

وبينما يرى المناهضون لنظام الرئيس السوري بشار الأسد أن العد التنازلي للنظام قد بدأ، وأن «النصر بات على مقربة ساعات»، بحسب سهيل الناشط الحمصي، الذي أكد أنه مستعد لتحمل العقوبات الاقتصادية وأن «يأكل وأولاده التراب إذا كان هذا سيعجل بسقوط الأسد»، يقول: «الشعب الذي يدفع دمه ثمنا للحرية لن تضيره الشدة الاقتصادية»، مشيرا إلى أنه كان يتوقع من الجامعة العربية المزيد، ورأى أنها لا تزال «تمهل وتماطل لصالح النظام»، ولا يظن سهيل ولو لمجرد الظن أن «الجامعة العربية ترغب في سقوط النظام، فهي لا تزال تمده بجرعات إنعاش»، ما زال المؤيدون للنظام يخرجون في مسيرات دعم في ساحات المدن الرئيسية ومسيرات سيارة مع ملاحظة تراجع أعداد المشاركين فيها. كما أن المسيرات في أيام العطل الرسمية لا سيما يوم الجمعة فشلت فشلا ذريعا، حيث لم يتمكن النظام من تحشيد الموظفين والعمال وتلاميذ المدارس كما هو الحال أيام الدوام.

كما يحتفظ الإعلام الرسمي بخطابه المكرور عن وجود مؤامرة دولية وحتى «كونية» على سوريا لأن نظامها يدعم المقاومة، ومؤخرا تحول خطاب الإعلام السوري الرسمي الذي دأب على تمجيد العرب والعروبة إلى مهاجمة الجامعة العربية وشتم الأنظمة العربية، وبالأخص دول الخليج، واتهامها بتنفيذ أجندات أميركا والغرب وإسرائيل في المنطقة.

وكتبت صحيفة «الثورة» في افتتاحيتها يوم أمس: «المشهد العربي القائم ليس أسوأ مما كان»، وإن جاء «هذه المرة مباشرة وأكثر عدوانية»، وقالت عن بعض الأنظمة العربية إنه «سبق لهم أن مدوا الإخوان بالسلاح والمال، ووفروا لهم الحماية السياسية، واستخدمت الكثير من الدول المجاورة لشن هجمات إرهابية ضد السوريين»، وإنه «اليوم هناك أذرع جديدة تؤمّن لهم المكان والمال ومنابر الإعلام، وهي تعلن عداءها السافر جهارا، ودعمها وتشجيعها للإرهابيين، وتوقها للمشاركة في أي نشاط من شأنه فرض عقوبات على سوريا»، ووصفت أصوات البعض بأنها «لم تقف عند حد، بل تجاوزت كل عتبات الحياء السياسي وداست على كل الأعراف الدبلوماسية بين الدول»، ولفتت إلى أن الفارق بين العرب الذين تورطوا في الماضي والعرب اليوم أن هؤلاء «كانوا يديرون تآمرهم في الكواليس»، بينما «اليوم بعضهم يخرج علنا، ودون حياء أو خجل.. يهدد ويتوعد.. يعطي المهل ويملي برتوكولات، والآخرون يمضون معه طائعين».

لكن الكلام عن المؤامرة العربية والدولية على سوريا لم تعد تقنع المواطن السوري العادي الذي ما زال يحافظ على صمته، وبات اليوم تحت ضغط معيشي هائل، وأكثر سؤال يحير هذا السوري: «لماذا يعجز نظام بهذه القوة والوحشية عن القضاء على المسلحين والمخربين وهو الذي بإمكانه إحصاء الأنفاس؟»، وكي «لا يتعب نفسه بالإجابة تراه يسعى لتقليل خسائره وأخذ كل الإجراءات اللازمة في حالة الحرب». وفي دمشق ومنذ عدة أشهر راحت الغالبية تتحضر من حيث تخزين الأغذية والأدوية، وتحويل المدخرات من الليرة السورية إلى عملة أخرى أو عقار أو ذهب، قلة لم يفعلوا، وغالبا هؤلاء المقتنعون بأن نظاما هكذا من المستحيل أن يسقط.

لين (43 عاما) موظفة في قطاع عام، قالت إنها احتاجت إلى تحويل مبلغ 200 دولار إلى الليرة السورية لشراء حاجات يومية ولم تتمكن، إذ إن الصراف الذي تتعامل معه في السوق السوداء قال لها إنه لا يستطيع ذلك بانتظار تطورات الأوضاع، فربما هبطت الليرة، وهو غير مستعد للخسارة. وتقول لين إنها من عدة أشهر حولت كل مدخراتها بالليرة السورية إلى دولارات، لأنها كانت ترى الأوضاع الاقتصادية تسير نحو الأسوأ، في حين أن رائدة (45 عاما) زميلتها بالعمل رفضت تحويل مدخراتها بالعملة السورية إلى عملة أجنبية، وهي قيمة ميراثها من بيت العائلة الذي بيع منذ نحو عام، وتقول لين إنها حاولت إقناع زميلتها (وهي مؤيدة للنظام) بشراء عقار أو ذهب بالمبلغ لكنها رفضت لقناعتها أن النظام قوي لا يمكن أن ينهار، وأنها إن فعلت ذلك فهي ستساهم في انهياره، اليوم ترفض رائدة الحديث في هذا الموضوع الذي يشغل بالها ليل نهار، وهي تبحث عن عقار تشتريه، في وقت تشهد فيه حركة السوق جمودا كبيرا.

ومع ازدهار الشائعات المبنية على توقعات عن انهيار وشيك للاقتصاد واحتمال إفلاس المصارف، والحجز على أموال البنك المركزي، نفى حاكم مصرف سوريا المركزي أديب ميالة في تصريحات صحافية له يوم أمس «كل ما يقال عن احتمال إفلاس المصارف الخاصة»، وقال إنها «إشاعات شبيهة بإشاعات امتناع المركزي عن فتح الاعتمادات بالريال السعودي وطباعة العملة السورية بالداخل والحجز على أموال المركزي».

واعتبر قيام بعض المصارف الخاصة بتسليم الحوالات الواردة إليهم بالدولار بالعملة السورية «مخالفة»، مع التأكيد على أن من «حق المرسل إليه أن يتسلم الحوالة التي وردت إليه من الخارج بذات القطع الأجنبي الذي وردت إليه فيه»، وأن قيام بعض المصارف بهذا العمل «لا يعني أن لديها نقصا بالقطع الأجنبي»، لأن «البنك المركزي يزودها بما تحتاج إليه من دولارات، وقد أعلن مؤخرا عن بيع 33 مليون دولار للمصارف في يوم واحد». وعما يقال عن إمكانية تعرض بعض المصارف الخاصة للإفلاس طمأن الجميع مؤكدا على أن «المصارف العامة مضمونة من وزارة المالية ولن تتعرض للإفلاس، كما أن المركزي يعمل على توفير السيولة لدى المصارف الخاصة، وإذا تعثر أحدها فإن المركزي يدعمه مباشرة، ولا مجال لإفلاس أي بنك خاص»، مشيرا إلى بذل جهود «للاتفاق على العقوبات، وكذلك فإن هناك مصارف غير سوريا تحاول مساعدة التجار والمصارف السورية للالتفاف على العقوبات، علما بأن المصرف السوري لا يفرح بقطع علاقته مع زبائنه أو فرض إجراءات مشددة على تعاملات التجار، لأنه سيكون الخاسر الأول لكنه مضطر إلى ذلك».

وتشهد الأسواق السورية ارتفاعا في الأسعار مع شح مواد المحروقات كالمازوت والغاز المستخدم في المنازل. وبينما يؤكد المسؤولون في الحكومة على أن الأزمة مفتعلة، ستجد من يقول في الشارع إن التجار والموظفين الفاسدين والمهربين هم الذين يتسببون بالأزمة، إذ يحتجزون تلك المواد كي يبيعوها في السوق السوداء بأسعار مرتفعة، أما رامي (22 عاما) الذي حصل أمس على جرتي غاز بالوساطة فكان يجرهما في الشارع بسرعة كبيرة ليصل بهما إلى بيته، وعندما قال له جاره ساخرا: «احضنها، صارت تعادل قيمة رجل»، رد عليه: «لو أعطيتني مائة ألف ليرة سورية لن أبيعها»، مع الإشارة إلى أن سعر جرة الغاز مائتان وخمسون ليرة، ويتفاوت سعرها بين منطقة وأخرى ما بين 400 إلى 1000 ليرة، حسب المنطقة، فالمناطق الهادئة يمكن أن تتوفر بطريقة ما وبسعر 400 ليرة، أما في المناطق الساخنة ككثير من أحياء حمص وريفها ودرعا وإدلب والرستن وتلبيسة فالأسعار تتجاوز أحيانا الألف ليرة، وهي غير متوفرة.

هذه الأزمة تعكس بوضوح الأزمة الاقتصادية العامة في البلاد مع تطبيق العقوبات العربية على سوريا، وهو ما دفع وزير الاقتصاد السوري محمد الشعار أمس إلى الحديث عن سياسة «الاكتفاء الذاتي»، وهي ذاتها سياسة التقشف التي سبق وفرضها نظام الرئيس حافظ الأسد على الشعب السوري في عقد الثمانينات أيام حكومة عبد الرؤوف الكسم، وما إن تمكنت سوريا من الوصول إلى عتبة تحقيق الاكتفاء الذاتي ضمن إطار سياسة التحول الاشتراكي، حتى جاء عصر الانفتاح الاقتصادي والتحول إلى اقتصاد السوق في عهد نجله بشار الأسد، الذي لم يبقِ حجرا على حجر في بناء الاكتفاء الذاتي المتهالك الذي ورثه عن والده، وتعرض لضربات قوية لأهم قطاعين يقوم عليهما الاكتفاء الذاتي، وهما الزراعة والصناعات الصغيرة، حيث تم تشجيع القطاعات الخدمية السياحية والتجارية وبالأخص العقارات، مع أن هذين القطاعين هما الأكثر هشاشة في منطقة الشرق الأوسط الدائمة الاضطراب، وهذا خلق ضغوطا هائلة على الشعب السوري الذي يعيش على الزراعة والصناعات الصغيرة، واليوم لا يمكنهم تصديق كلام مسؤولي الاقتصاد في البلاد، ويعتبرون أن الوقت قد فات على إصلاح ما أفسدته سياستهم الاقتصادية، ويقول أبو محمد (60 عاما) إنه عندما يشاهد أحد المسؤولين يتحدثون عن الاكتفاء الذاتي في التلفزيون المحلي، يقلب القناة، وهو يسأل بسخرية وتعجب: «الآن!! بعد أن خربتم حياتنا وخربتم البلاد».