تركي الفيصل: استقراء مستقبلنا يظْهر انكشافنا أمنيا وسكانيا وثقافيا واقتصاديا وتنمويا

خلال كلمته في منتدى الخليج والعالم.. نحو المستقبل

الأمير تركي الفيصل (واس)
TT

قدم الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، شكره للأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي، رئيس مجلس إدارة معهد الدراسات الدبلوماسية لدعوته للمشاركة في هذا المؤتمر، والشكر موصول لكل من الدكتور عبد العزيز بن صقر مدير مركز الخليج للأبحاث، والدكتور عبد الكريم الدخيل مدير عام معهد الدراسات الدبلوماسية لجهودهما في تنظيم هذا المؤتمر المتميز: في موضوعه، وفي محاوره، وفي مستوى المشاركين فيه.

وقال في كلمته، غير خاف ما يشهده عالمنا المعاصر من تحولات جذرية على جميع الأصعدة: الفكرية، والإعلامية، والسياسية، والاقتصادية، والمالية، والاجتماعية، والأمنية. وغير خاف أيضا مدى تأثير هذه التحولات على مسار العلاقات الدولية وعلى نوعية التحديات التي تفرضها على الدول والمجتمعات كافة؛ ومن ثم، فإن استشراف ما تفرضه هذه التحولات من تغيرات استراتيجية على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، وتقديم الرؤى الواقعية حولها، يساعد في ولوج باب المستقبل بمزيد من الثقة حوله، ويشجع على وضع الخطط والبرامج التي تتيح السباحة في أمواج هذه التغيرات؛ سواء أكانت أمواجا هادئة أم مضطربة.

إن قراءة هذه التغيرات أمر ضروري لنا في منطقتنا. هذه المنطقة التي هي بمنزلة المركز بموقعها الاستراتيجي وثقلها التاريخي، وبمصادرها الطبيعية الضرورية لاستمرار نمط الحياة المعاصرة. لكن ينبغي لنا النظر إلى ما تشهده منطقتنا والعالم من تغيرات كونها تحديات للجميع، وكذلك مسؤولية التعامل معها وتوجيهها نحوالخير إن كانت خيرا، وتجنب شرها إن كانت شرا. وتفرض علينا هذه القراءة المستقبلية أيضا أنْ نأخذ في الحسبان أن المعطيات المتاحة لقراءتنا الحالية ربما لا تستمر أوتدوم بسبب عوامل موضوعية أوغير موضوعية قد تفرض تغيرات استراتيجية جديدة تختلف عن التغيرات المحسوسة حاليا. ولنا عبرة في كيفية وسرعة انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل العقْد الأخير من القرن الميلادي الماضي التي لم تكن في حسبان كثيرين؛ لكن ذلك حدث وتسبب في تغير التوازن الاستراتيجي العالمي وتغير العالم. كما أن لحظة القطبية الأحادية التي أعقبت ذلك لم تدمْ كما أراد لها مخططوها ومنظروها؛ إذ نشهد صعود قوى جديدة، على رأسها: الصين، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، وتركية، بالإضافة إلى اليابان، والاتحاد الأوربي، وروسيا. ولهذا فنحن نعاصر توزيعا جديدا للقوى بسبب التحول في مفهوم القوة وعلاقاتها وأنماطها؛ مما ينبئ ببروز قطبية تعددية جديدة تتغير معها طبيعة السياسة الدولية ونوعية التفاعلات بين الأمم. ولنا عبرة أيضا فيما تشهده دولا عربية من تحولات لم يتوقع أحد الكيفية التي حدثت بها أوأمكنه التنبؤ بمآلاتها.

لقد ناقشتم خلال اليومين السابقين كثيرا من القضايا المتعلقة بالخليج العربي والعالم، واستمعتم إلى كثير من الآراء السديدة حول التطورات في منطقة الخليج العربي، لكنني سوف أتحدث هنا حول أين ينبغي لنا أن نكون مستقبلا في سياق التحولات الاستراتيجية عالميا في ظل التوزيع المتوقع لمراكز القوة في العالم، وحول التحديات التي تواجهنا والتي لا بد من التغلب عليها ليكون مكاننا في مقدمة الركب وليس فقط مستسلمين لأين سنقاد.

إن استقراء مستقبلنا من خلال المعطيات الحالية التي تظْهر انكشافنا الاستراتيجي: أمنيا وسكانيا وثقافيا واقتصاديا وتنمويا؛ يشهد على تأخرنا في صوغ استراتيجية سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية مستقبلية تأخذ في الحسبان أن كل انجازاتنا المتحققة في عملية بناء الدول وفي ميادين التنمية تتطلب النظر إلى المستقبل وما تحمله الأيام من تحديات داخلية وإقليمية ودولية، وأنْ لا نركن إلى أن الظروف التي سمحت لنا بفترة طويلة من الاستقرار والنمووتحقيق الكثير من الإنجازات الناجحة ستدوم إلى الأبد.

لقد علمنا التاريخ أن تغير الأحوال من سنن الحياة، وأن من ينجومن تداعيات كثير من التغيرات السلبية هم من استشرفوا هذه التغيرات، وحصنوا أنفسهم منها، وتقدموا بما تمليه عليهم متطلبات التقدم إلى الأمام. لهذا فعلينا جميعا كدول وكمنظومة خليجية ـ أن نتقبل هذه الحقيقة، وأن نعرف ونبذل جهودا مضاعفة إن أردنا العبور إلى المستقبل بثقة واطمئنان.

إن أهمية منطقتنا الاستراتيجية موقعا وثروة للعالم، وهي أهمية حقيقية، ليست ضمانا كافيا لبقائها بمنأ عن التقلبات الاستراتيجية في العالم وعن التنافس بين قواه على النفوذ فيه فمن التحديات التي واجهت دولنا كان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية وغزوالعراق للكويت وغزوأمريكا للعراق، لذلك علينا ألا نبقى مرتهنين لتقلبات السياسة الدولية، وضحية للمساومات الدبلوماسية؛ بل يجب أن نكون فاعلين أقوياء في جميع التفاعلات الدولية حول قضايا منطقتنا، وأنْ لا نسمح بفرض خيارات الآخرين علينا بحجة ضعف قدراتنا العسكرية، مما يعني ترسيخ تبعيتنا للغير. وهذا يتطلب منا ـ ونحن أصحاب المصلحة الأولى في ذلك ـ العمل على تحقيق وحْدتنا وتوحيد قراراتنا السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية التي تعزز موقفنا. وعلينا تحويل الوعي بمثل هذه الحقيقة إلى فعل وحركة دؤوب لا تتوقف حتى ندرك أهدافنا.

إننا، وبعد أكثر من ثلاثين عاما من تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مطالبون بإعادة التفكير في أهدافنا للتكامل والتنسيق بين دولنا للارتقاء بها وبدورها في العالم ؛ لاسيما وأن الظروف والتطورات المحلية والإقليمية والدولية تفرض ذلك وما المانع من أن يتحول هذا المجلس إلى دول ذات سيادة، وينطلق بروح جديدة واضحة الهدف النهائي. وما الذي يمنع من المباشرة في بناء جيش خليجي متحد وبقيادة واحدة؟ نحن ملتزمون بإقامة منطقة في الشرق الأوسط محظورة الأسلحة ذات الدمار الشامل ولكن إذا مافشلت جهودنا وجهود العالم في إقناع إسرائيل بالتخلي عن أسلحتها ذات الدمار الشامل وكذلك بالنسبة لتسلح إيران بنفس الأسلحة، وإذا ما فشلت هذه الجهود أيضا في تبني العالم لمشروع شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل؟ فما الذي يمنع وعلى أقل تقدير من أن نتمعن في إمكانية حيازة هذه الأسلحة فلا بد لنا؛ بل من واجبنا تجاه أوطاننا وشعوبنا، أنْ ننظر في جميع الخيارات المتاحة ومن ضمنها حيازتنا لتلك الأسلحة لكيلا تحاسبنا أجيالنا القادمة إذا ما قصرنا في اتخاذ أي من التدابير التي تدرأ عنا المخاطر المحدقة بنا.

إن الانتقال إلى هذه المرحلة يتطلب أيضا نظرة جديدة لطبيعة فكرة السيادة الوطنية التي إذا ما أخذتْ بمعناها التقليدي تصبح عائقا أمام أي عملية تكامل أووحْدة بين الدول، إن شعوبنا وبسبب ما يجمعنا من وشائج، وحتى قبل نشوء دولنا الحديثة، كل واحد: أمْن أي منا هوأمْن لنا كلنا، واستقرار أي منا هواستقرار للجميع، ومصيبة تصيب أيا منا هي بلاء على الجميع. وقد أكدت تجربتنا معا في مجلس التعاون لدول الخليج العربية هذه المبادئ، وأثبتت التجربة ذلك أيضا، وعليه وإذا نظرنا لسيادة دولنا ككل فأي تنازل عن جزء من عناصر سيادة أي دولة من دولنا لأخرى أمر يجذبنا لبعض وهوفي الواقع تعزيز لسيادتنا الجماعية.

لقد رأينا ـ مؤخرا ـ كيف استجابت دول المجلس للتحديات التي واجهت كلا من البحرين وعمان؛ حيث سارع الجميع إلى تقديم الدعم المالي الكبير ومقداره عشرون مليار دولار لكليهما للعشرة أعوام المقبلة، وبتقديم الدعم الأمني للبحرين. وقبل عقد من الزمن كان تصدي دول المجلس للغزوالعراقي للكويت. وقد رأينا ـ مؤخرا ـ كيف أن دول المجلس عندما تجتمع يكون لها قول فصل لتقود الوساطة في اليمن وتدفع بالجامعة العربية لتصحيح الأوضاع في ليبيا.

إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما ذكرته آنفا، وحاجتنا إلى أن نتقدم في مسيرتنا كتكتل إقليمي متحد يسير بثقة ليكون قوة مكتملة العناصر وتعمل للخير في هذا العالم فعلينا أن نراجع أنفسنا، وأنْ لا نسمح للمنغصات الثانوية والثنائية التي تعوق ـ في أحيان كثيرة ـ التقدم في سبيل إنجاز مشاريعنا الكبرى أن تؤثر في مسيرتنا الجماعية. وعلينا الالتفات أيضا لأوضاعنا الداخلية في دولنا، والتفكير في مستقبلها، وإجراء ما تتطلبه المرحلة من إصلاحات على جميع الأصعدة لتحصين داخلنا؛ فإنه لن تكون هناك فاعلية خارجية دون داخل فاعل.

إن علينا مراجعة خططنا التنموية ليكون مواطننا محْورها، ولترقى به ليكون على مستوى الطموح الذي نتطلع إليه في وحدتنا المشتركة، فاعلين ومؤثرين للتطورات من حولنا. وعلينا أيضا مراجعة خياراتنا الاقتصادية التي سمحت بابتعاد اقتصاداتنا عن كونها اقتصادات مبدعة ومبتكرة، وما جره ذلك من آثار ظهرت في تركيبتنا السكانية ومستقبلها، وسمحت بأنْ نكون سوقا لعمالة العالم وأبناء بلداننا عاطلين عن العمل. إن تحسين مؤسساتنا السياسية والثقافية لتستجيب لمتطلبات التحولات الاجتماعية والثقافية في مجتمعاتنا لم يعد خيارا لنا وإنما هوفرض علينا وإن مفهوم المواطنة بكافة معانيها هوأس للعلاقة التي تربط الدولة والمواطن.

دعونى هنا أن أتطلع معكم عما نستطيع إنجازه خلال المستقبل القريب بإذن الله:

إننا نستطيع أنْ نؤسس لجزيرة عربية واحدة. إننا نستطيع أنْ نؤسس لمجلس شورى منتخب لدولة واحدة. إننا نستطيع أنْ نؤسس لقوة عسكرية واحدة وصناعة عسكرية موحدة. إننا نستطيع أنْ نؤسس لاقتصاد واحد ولعملة واحدة. إننا نستطيع أنْ نؤسس لوكالة للفضاء واحدة. إننا نستطيع أنْ نؤسس لصناعة إلكترونية واحدة. إننا نستطيع أنْ نؤسس لصناعة طائرات واحدة.

إننا نستطيع أنْ نؤسس لصناعة سيارات واحدة. إننا نستطيع أنْ نؤسس لمناهج تعليمية واحدة. إننا نستطيع أنْ نؤسس لصناعات طاقة وبتروكيماويات واحدة. إننا نستطيع أنْ نؤسس لأمثولة للعدالة والتعامل الإنساني واحدة.

إن التحديات كبيرة ومتنوعة، والمسؤوليات عظيمة؛ ولكنها ليست عصية على الحل، وإنْ أحسنا الخيارات والوسائل فسيكون مستقبلنا كما نريده.

وأختم بجملة وردت في إعلان الرياض الصادر عن قمة المجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته العشرين المنعقدة في الرياض خلال الفترة من 19 - 21 شعبان 1420هـ الموافق 27 - 29 نوفمبر 1999م التي تقول: «إن التاريخ لا يصنعه المتفرجون من بعيد، وإن الأحداث لا يصوغها المنعزلون المتهيبون».