أحد مدرسي رئيس الحكومة المغربية الجديد: بن كيران التلميذ كان يخفي شخصية قوية ذات مواهب قيادية

محمد بوخزار لـ «الشرق الأوسط»: تميز بدماثة الخلق والحياء.. وفضل الجلوس في الصفوف الأخيرة

TT

منذ أن عينه العاهل المغربي الملك محمد السادس رئيسا للحكومة بمقتضى الدستور الجديد، أصبح عبد الإله بن كيران مالئ الدنيا وشاغل الناس في المغرب، وتهافتت الصحف ووسائل الإعلام على الغوص في مسار حياته، والبحث عن مناقبه.

وفي سياق ذلك، تتبعت «الشرق الأوسط» خطى بن كيران التلميذ، والتقت محمد بوخزار، الكاتب الصحافي المغربي، الذي درس بن كيران اللغة العربية في قسم البكالوريا (الثانوية العامة) بثانوية مولاي يوسف بالرباط، الذي قال إن ما يحتفظ به عن بن كيران، وقد بعُد الزمن، هو دماثة الخلق والحياء والتهذيب المفرط، مشيرا إلى أن بن كيران التلميذ بدا له منذ الوهلة الأولى أنه يخفي شخصية قوية ذات مواهب قيادية واضحة، وأنه كان يلمس قدرته على الإقناع والتأثير في زملائه، وتحريك الصف نحو الوجهة التي يراها الأصلح.

وأضاف بوخزار أن التلاميذ كانوا يخوضون معه المعارك والاحتجاجات على مستوى القسم أو المؤسسة ككل، لا ينازعه أحد، حسب علمه، في ذلك الوقت، وعلى الأقل في قسمه الدراسي.

وقال بوخزار إنه لا يدري إن كان بن كيران، وهو تلميذ في ثانوية مولاي يوسف، المجاورة للقصر الملكي، قد شخص ببصره ذات يوم نحو ساحة «المشور السعيد» في الرباط، حيث القصر الملكي، وهو يسمع الموسيقى التي تعزفها في ساعات محددة، صباحا ومساء، فرق الحرس الملكي، وتصل أصداؤها إلى الأقسام الدراسية في المؤسسة.

وتساءل بوخزار: «هل تصور أنه سيذرع يوما تلك الساحة المهيبة محاطا بأبهة البروتوكول والمراسيم الرسمية، قاصدا مكتبا، ينتظره بجوار الديوان الملكي؟».

وأوضح بوخزار أن الثانوية العتيدة التي تحمل اسم الجد الأكبر للعاهل المغربي الملك محمد السادس، كانت ضاجة بحراك سياسي في تلك الفترة المضطربة من تاريخ المغرب، مشيرا إلى أن الفتى بن كيران وجد نفسه في معمعة النضال من أجل تغيير لم يكن يعي أهدافه ومقاصده؛ موزعا بين الواجبات الدراسية التي تفرض عليه الاجتهاد في المواد العلمية لنيل شهادة البكالوريا، وبين الانخراط في خضم «الاحتجاج»، الذي أجج ناره تلاميذ المغرب في الثانوي وطلابه في الجامعة على مدى سنوات، رافعين شعارات ضد السلطة، في أجواء احتقان سياسي، وانسداد الأفق التام أمام المعارضة اليسارية المحاصرة الممثلة في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي لاحقا).

وقال بوخزار إن التلميذ عبد الإله كان يجلس مؤثرا الصفوف الأخيرة، مما يمكنه من مراقبة القسم. وأضاف: «بدا لي في أول لقاء مع أقرانه صغير السن نحيف الجسم، عكس كثيرين، لكنه أكثرهم يقظة وانتباها واهتماما بما يجري حوله».

وأشار بوخزار إلى أنه يذكر جيدا أن القسم استقبله بترحاب، كونه أستاذ اللغة العربية. وكيف أن بن كيران تحدث باسم زملائه، طالبا منهم الإصغاء إلى مدرس اللغة العربية الجديد والكف عن الفوضى التي كانت تسود القسم من قبل. ويقول بوخزار إن «سلفه» كانت تأخذه في الغالب سنة من النوم في الحصص المدرجة بعد الزوال؛ حيث لا يستطيع مقاومة إغراء القيلولة في جو الرباط الرطب، فينخرط التلاميذ في دردشات وهمهمات يتجاوز صخبها جدران القسم، بينما ينهمك آخرون في إنجاز التمارين والفروض التي يطلبها الأساتذة.

وأوضح بوخزار أنه كان آنذاك في نحو الثالثة والعشرين من عمره، تفرقه عمَّن أصبحوا «تلامذته» سنوات قليلة. وقال: حصل التجاوب السريع بيننا، وأدركوا أني لست «رقيبا عليهم من طرف الإدارة»، وأن أفكاري تلتقي مع قناعات زملائي الآخرين، خريجي كلية الآداب، التي شكلت إحدى قلاع المعارضة الطلابية، قريبة من اهتماماتهم ومما كانوا ينتظرونه من مدرسيهم المغاربة، لذا اعتبروهم حلفاء في معركة «التغيير» يطلعونهم على مواعيد الإضرابات الموجهة ضد السياسة التعليمية الرسمية وليس ضد أساتذتهم، وأحيانا يستشيرونهم بشأن خطوة نضالية.

وقال بوخزار: إن ثانوية مولاي يوسف جمعت في تلك الفترة أسماء، مثل الناقد السينمائي نور الدين الصايل، وأحمد بوكوس، عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وعبد القادر الفاسي الفهري، عالم اللسانيات، والقاص الأمين الخمليشي، والناقد عبد الحميد عقار، الرئيس السابق لاتحاد كتاب المغرب، وآخرين من كان لهم حضور معنوي في الوسط التربوي بالرباط.

وذكر بوخزار أن أغلب المواد العلمية، كانت تلقن بالفرنسية بما فيها المواد الأدبية مثل التاريخ والجغرافية والفلسفة، بينما كان نصيب العربية ساعتين في الأسبوع؛ لذلك فإن تعيين أساتذة مغاربة بالثانوية ابتداء من الموسم الدراسي 68 - 1969، اعتبر بمثابة مغربة لهيئة التدريس، التي كان أغلب عناصرها وطاقمها الإداري من الفرنسيين، يديرها مدير من أصل جزائري.

ولاحظ بوخزار منذ البداية أن التلاميذ، وعددهم دون الـ25، انسجموا مع حصص العربية التي حولها إلى جلسات نقاش مفتوح، حسب قوله، لإكسابهم مهارة التعبير، انطلاقا من عرض ينجزه أحدهم، يكون أرضية ومنطلقا لتبادل أفكار تدور في الغالب حول قضايا راهنة تشغل بال تلاميذ ثانوية «مولاي يوسف»، وهم طلائع الحركة الاعتراضية، حيث يوجد أحد مراكز المعارضة، فمنها كانت تخرج شرارة الإضرابات، لتصل أولا إلى ثانوية الحسن الثاني، قبل أن تعم أغلب مؤسسات التعليم الثانوي في الرباط، تمتد أياما، وأحيانا تتجاوز الأسبوع، بتنسيق مع المدن الأخرى، مشيرا إلى أن بن كيران كان أحد النشطاء والمحركين البارزين على الرغم من صغر سنه.

وروى بوخزار كيف كان حراك التلاميذ في الرباط والمدن الأخرى، محكم التنظيم، مستندا ومساندا للحركة الطلابية في الجامعة المغربية؛ حيث أشرفت عليه «الوداديات» التابعة للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ثم ظهر ما سمي «النقابة الوطنية للتلاميذ» ذات الأفرع السرية التي شكلت فيما بعد الأنوية الأولى لتنظيمات اليسار المتطرف في المغرب الذي تقوى وكبر منذ مطلع عقد السبعينات من القرن الماضي، ووجد في الكليات والمعاهد العليا الفضاء الفسيح؛ حيث سيبرز فرسان أتوا من مشارب عدة بينهم بن كيران، وقد صار طالبا جامعيا مشبعا بخبرة ثانوية «مولاي يوسف» في النضال؛ حيث تدرب على القيادة والانضباط والكتمان.

وواصل بوخزار حديثه عن بن كيران بالقول: «كثيرا ما ألتقيه مصادفة، ويكون السباق للتحية، يعانقني بحرارة ويشد على يدي بصدق، فأشعر بالخجل من فرط تواضعه. وحينما يكون معنا شهود، لا يتردد في القول بأعلى صوته: (هذا أستاذي).. فألتمس منه ألا يكثر من الإطراء؛ فأنا لم أضف شيئا لعلمه في ساعات معدودة، كما أنه كان يحب العربية، كما صرح مرارا، قبلي وبعدي».

وتوقع بوخزار لبن كيران النجاح، وقال إنه إنسان شهم صادق في القول والفعل، غير متعصب خلاف ما يوحي به مظهره، مطور مراجع لأفكاره باستثناء ما يعتبره قناعات سرمدية، وهذا حقه المطلق.

وأضاف: «هو متواضع حقا لا تمثيلا في هندامه وسلوكه، يمشي بين الناس هونا، ويتناول الوجبات في المطاعم الشعبية دون تأفف أو ترفع».

ويعتقد بوخزار أن بن كيران سيعيد للسياسة بعضا من الأخلاق التي افتقدتها أو انتزعت منها في المغرب، قبل أن يختتم قائلا: «ليكن الله في عونه».