اليابان تواجه معضلة إعادة السكان لمناطق الإشعاعات

طوكيو اختارت «تنظيف» المدن الملوثة على عكس خطط السوفيات بعد تشرنوبيل

السلطات اليابانية تباشر عمليات تنظيف ضخمة للمناطق المتضررة من الإشعاعات في فوكوشيما (نيويورك تايمز)
TT

تحولت فوتابا إلى مدينة أشباح، لكن ليس بسبب كونها مزدهرة وصارت تعاني الكساد أو لأنها كانت ضحية زلزال وموجات تسونامي التي عصفت بأجزاء أخرى من الساحل الشمالي الشرقي لليابان. وبدأت المنازل الخشبية التقليدية بالمدينة في التساقط بعدما هجرها سكانها في مارس (آذار) الماضي هربا من المحطة النووية في البلدة. وأولئك الذين فروا من فوتابا يعدون جزءا من نحو 90,000 شخص تم إجلاؤهم من 12 ميلا حول محطة فوكوشيما ومنطقة أخرى في الشمال الغربي الذي تلوث بالتسريبات المشعة. والآن، تعد السلطات خططا لتطهير المدن بشكل ضخم وغير مسبوق، أملا في إعادة المهجرين إلى منازلهم.

وثمة جدل كبير حول إعادة السكان إلى المناطق المنكوبة، إذا ثبتت فعالية تلك الخطط، مما أثار جدلا آخر حول مستقبل اليابان ككل بعد الأزمة. ويرى مؤيدو إعادة السكان أن إعادة تأهيل المنطقة تعد فرصة لإظهار عزم وتصميم البلاد ومهاراتها التقنية الفائقة - وهو ما سيكون دليلا على أن اليابان لا تزال قوة عظمى. وعلى الجانب الآخر، يرى منتقدو هذا الاتجاه أن هذا الجهد المبذول لتنظيف فوكوشيما قد ينتهي به الأمر ليصبح مثل مشروعات الأشغال العامة التي كلفت البلاد مبالغ طائلة دون أي فائدة، وهو ما يعد مثالا آخر على أن اليابان بعد الكارثة قد عادت إلى الإسراف بشكل قد يؤدي إلى شلل في النمو الاقتصادي على مدى عقدين من الزمن.

وحتى الآن، تتبع الحكومة نمطا وُضع منذ وقوع الحادث النووي يتمثل في تجنب الأخطار قبل حدوثها في كثير من الأحيان، والسعي للحد من نطاق الكارثة. وبالفعل، تعطلت عملية التنظيف التجريبية، حيث فشلت الحكومة في توقع رفض الكثير من المناطق تخزين الأطنان التي سيتم تجريفها من المساحات والحقول الملوثة. واكتشف أحد أخصائيي الإشعاعات، بعد دراسة نتائج عملية التنظيف واسعة النطاق في مدينة قريبة، أن مستويات التعرض للإشعاع لا تزال أعلى من معايير السلامة الدولية.

وليتم الحكم على ما تفكر اليابان في القيام به على نطاق واسع، يجب الوضع في الاعتبار تصريحات الخبراء التي تؤكد أنه يجب تنظيف آلاف المباني من الجسيمات المشعة واستبدال جزء كبير من التربة السطحية في منطقة بحجم ولاية كونيتيكت، حتى يمكن إعادة السكان إلى ديارهم بأمان. وعلاوة على ذلك، يجب أيضا تطهير المناطق الجبلية التي تنمو فيها الغابات، وهو ما يتطلب تجريف تلك المناطق وتنظيفها.

ولم يحاول الاتحاد السوفياتي إجراء محاولة تنظيف من هذا القبيل بعد حادث تشرنوبيل في عام 1986، وهي الكارثة النووية الوحيدة التي تفوق ما حدث في فوكوشيما. وبدلا من اللجوء لعملية التنظيف، قامت الحكومة السوفياتية السابقة بترحيل 300,000 شخص والتخلي عن مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية.

ويرى العديد من المسؤولين اليابانيين أنهم لا يتمتعون بهذا الترف، حيث تمثل المنطقة التي تم إخلاؤها أكثر من 3% من مساحة اليابسة في تلك الدولة المكتظة بالسكان. وقال توشيتسونا واتانابي، 64 عاما، وهو رئيس بلدية أوكوما التي كانت واحدة من المدن التي تم إخلاؤها: «وضعنا يختلف عن تشرنوبيل. إننا مصممون على العودة، وتملك اليابان الإرادة والتكنولوجيا التي تمكنها من القيام بذلك».

ويعكس هذا التصميم مدى تعلق سكان الريف اليابانيين بموطنهم، مثل واتانابي الذي عاشت عائلته في أوكوما لمدة 19 جيلا. وقد لاقت استغاثاتهم ومطالبتهم بالعودة إلى منازلهم تعاطفا كبيرا في جميع أنحاء اليابان، مما يجعل من الصعب على الشعب الياباني مقاومة رغباتهم.

ومع ذلك، اشتدت معارضة عودة المهجرين، سواء بين أولئك الذين تم ترحيلهم أو أولئك الذين يخشون من أن تقدم البلاد الكثير من التضحيات دون ضمانات بأن مليارات الدولارات التي ستنفق على عملية التنظيف ستوفر حماية كافية للسكان.

ويبدو أن تصريحات الحكومات المحلية والأكاديميين التي تحاول طمأنة الناس بأنه يمكن العيش بأمان قرب المحطة النووية قد أصبحت مجرد آمال، حيث لا يعرف أحد مدى الأضرار التي يسببها التعرض لجرعات منخفضة من الإشعاع والتي قد تؤدي إلى الوفاة المبكرة. ويعني هذا أن اليابانيين الذين يعيشون في المناطق الملوثة سيكونون على الأرجح بمثابة موضوعات للدراسات المستقبلية - وتعد هذه هي المرة الثانية خلال سبعة عقود التي يصبح فيها اليابانيون بمثابة اختبار لآثار التعرض للإشعاعات، وكانت الأولى بعد قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنبلة النووية.

وقد أعلنت الحكومة الوطنية مسؤوليتها عن تنظيف المدن الموجودة في منطقة الإجلاء؛ وبدأت الحكومات المحلية بالفعل في تنظيف المدن والبلدات الواقعة خارج منطقة الإجلاء. وفي داخل منطقة الـ12 ميلا حول المحطة، والتي تتضمن مدينة فوتابا، تعهدت وزارة البيئة بالحد من مستويات الإشعاع إلى النصف في غضون عامين، ويعد هذا هدفا سهلا نسبيا لأن النظائر المشعة قصيرة الأجل ستتلف بمرور الوقت. والسؤال الأهم الآن هو: ما هي الفترة الزمنية المطلوبة للوصول إلى الهدف النهائي المتمثل في تخفيض تلك المستويات إلى نحو 1 ملي سيفرت سنويا، وهو الحد السنوي المسموح به من مصادر الإشعاع الاصطناعية، وفقا لما أوصت به اللجنة الدولية للوقاية من الإشعاع؟. وتعد هذه مهمة شاقة، لأن ذلك يتطلب إزالة عنصر السيزيوم 137، الذي يعد واحدا من النظائر التي تظل مشعة على مدار عقود من الزمان.

وقد تم تأجيل البدء في عمليات التنظيف التجريبية لأشهر، بسبب البحث عن مكان لتخزين التربة الملوثة التي سيتم تجريفها والتي ستملأ مساحة تعادل 33 ملعبا من ملاعب كرة القدم مغطاة على شكل قبة. وحتى المناطق التي تم إخلاؤها رفضت استقبال تلك التربة الملوثة.

وقد وجد تومويا ياموشي، وهو خبير متخصص في الإشعاعات في جامعة كوبي والذي قام بإجراء الاختبارات في فوكوشيما، أن مستويات الإشعاع داخل المنازل قد انخفضت بـ25% فقط، مما يعني أن أجزاء من المدينة تعاني من وجود مستويات إشعاع أعلى بمقدار أربع مرات عن الحد المسموح به.

وتعد مدينة ميناميسوما، التي يبعد مركزها عن المحطة النووية بنحو 15 ميلا، أفضل مكان يعكس القيود التي تواجه عملية إزالة التلوث، حيث قامت المدينة بتنظيف عشرات الحدائق والمدارس والمرافق الرياضية أملا في إعادة 30,000 من سكانها البالغ عددهم 70,000 والذين لم يعودوا للمدينة منذ الحادث.

وفي صباح أحد الأيام، كانت مجموعة من الجرافات والشاحنات تعيد تغطية ملعب لكرة القدم في إحدى المدارس ومنطقة مخصصة للعب البيسبول بطبقة من التراب المحمر والبني اللون. وقام العمال بدفن التربة السطحية القديمة في حفرة عميقة في زاوية من زوايا الملعب. وقال المشرف على الطاقم، ماساهيرو ساكورا، إن مستويات الإشعاع قد انخفضت بشكل كبير، لكنه قال إنه ما زال يشعر بالقلق لأنه من غير المتوقع أن يتم تطهير أجزاء كثيرة من المدينة قبل عامين على الأقل.

وفي هذه الأيام، لا يسمح ساكورا لبناته الثلاث بالخروج من المنزل إلا في حالة الذهاب إلى المدرسة أو اللعب في حديقة كان قد تم إزالة سطحها الملوث واستبدال طبقة أخرى نظيفة به. وتساءل ساكورا: «هل من الطبيعي أن نعيش حياة مثل تلك التي نعيشها؟». وتكون التحديات أصعب داخل الـ12 ميلا المحيطة بالمحطة النووية، حيث تصل مستويات الإشعاع في بعض الأماكن إلى ما يقرب من 510 ملي سيفرت في السنة، أي أعلى من المعدل المسموح به بـ25 مرة. وقد أدى اقتراح إعادة المهجرين إلى منازلهم إلى إثارة جدل كبير بين أولئك الذين تركوا منازلهم، لا سيما بين السكان النازحين من أوكوما والبالغ عددهم نحو 11,500 شخص. وقال واتانابي إن السكان سيعودون إلى المدينة خلال فترة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، ودعا إلى بناء مدينة جديدة على الأراضي الزراعية الواقعة في غرب أوكوما الأقل تلوثا.

* خدمة «نيويورك تايمز»