قتل المدنيين شكل عقبة كأداء أمام بقاء طويل الأمد للقوات الأميركية في العراق

مسؤول بالخارجية الأميركية: الكراهية في الماء والهواء.. إنه تاريخ مظلم وسيظل يطاردنا أينما حللنا في الشرق الأوسط

جنديان أميركيان يطويان علم بلهما بعد تسليم قاعدة «كالسو» العسكرية في مدينة الحلة أمس (إ.ب.أ)
TT

إذا ما حاولنا تعداد المكاسب والخسائر في حرب العراق الأميركية، ستصنف مدينة حديثة، الزراعية الهادئة الواقعة في عمق الصحراء الغربية كمكان فقد فيه كل شيء تقريبا.

في التاسع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 2005 أطلق جنود المارينز النار، في نوبة من الهياج بعد تعرض دوريتهم لقنبلة زرعت على جانب الطريق قتل على أثرها أحد رفاقهم، ليلقى 24 عراقيا مصرعهم، حيث أمروا خمسة أشخاص بالخروج من سيارة التاكسي التي كانوا يستقلونها وأطلقوا عليهم الرصاص، ثم دخلوا إلى ثلاثة منازل مجاورة لمكان الحادث وقتلوا تسعة عشر شخصا بينهم 11 امرأة وطفلا.

تتفق الروايات الأميركية والعراقية على هذه الأرقام، لكنها تختلف فيما عدا ذلك، لماذا حدثت وما إذا كان إطلاق النار مبررا وكيف تم التحقيق في المسألة. وسط هذه التصورات المتناقضة حول القتلى في حديثة والمدن الأخرى في العراق، يكمن فشل الآمال العسكرية الأميركية في الحفاظ على وجود طويل الأمد في العراق. فعندما تطلب الأمر اتخاذ قرار بشأن مستقبل القوات الأميركية في العراق كانت العقبة الكؤود التي حالت دون التوصل إلى اتفاق، طلب السياسيون العراقيون إنهاء الحصانة التي حمت الجنود الأميركيين في العراق من المثول أمام المحاكم العراقية.

ويقول سامي العسكري، عضو البرلمان العراقي والمقرب من نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي: «صورة الجندي الأميركي هي صورة القاتل لا المدافع. فكيف يمكنك أن تمنح الحصانة لقاتل؟». ستغادر القوات الأميركية العراق نهاية الشهر الحالي تاركة التساؤل حول أحد الأهداف الرئيسية للحرب، من تكوين حليف استراتيجي في قلب الشرق الأوسط. وسيترك الجنود الأميركيون خلفهم إرثا سيظل ماثلا إلى الأبد في أذهان الكثير من العراقيين للضحايا الذين أوقعهم الجنود الأميركيون بين المدنيين. فهي القضية الشائكة التي لا تزال تثير حساسية على كلا الجانبين على الرغم من تدفق القوات الأميركية خارج البلاد.

ويقول يوسف العنيزي (38 عاما) الأخ المكلوم في إحدى ضحايا حديثة: «لقد أنقذ قرار الحكومة العراقية أرواح الكثير من العراقيين، ولولا ذلك لأضيفت المزيد من المآسي إلى تلك التي شهدناها من قبل». قد لا يعرف على وجه التحديد عدد القتلى من العراقيين الذين سقطوا على يد القوات الأميركية، لكن التحليل الذي أصدرته كلية كنغز بلندن أشار إلى أن 12 في المائة من إجمالي 92614 شخصا قضوا في الفترة بين عامي 2003 و2008 بحسب موقع عراق «بودي كاونت»، على شبكة الإنترنت يراقب الضحايا بين المدنيين، قتلوا على يد قوات التحالف. وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة للعدد الإجمالي للضحايا من المدنيين خلال ما يقرب من تسع سنوات من الحرب، فإن جميع الإحصاءات تقدر العدد الإجمالي بأكثر من 100.000. وبحسب وزارة الدفاع الأميركية فقد قتل 4474 جنديا أميركيا، من بينهم 3518 قتلوا أثناء الخدمة.

كانت الغالبية العظمى من المدنيين نتيجة قتل عراقيين على يد عراقيين، سواء أكان ذلك عن طريق التفجيرات أو الاقتتال الطائفي الذي خيم على البلاد في الفترة بين عامي 2005 - 2007، بحسب الجنرال جيفري بوكانان، المتحدث باسم القوات الجيش الأميركي.

وأشار بوكانان إلى أن الجنود الذين تورطوا في عمليات انتهاكات معترف بها، كما هو الحال في الانتهاكات التي مورست بحق سجناء أبو غريب، تم تقديم مجندين ومجندات إلى المحاكمة والكثير منهم يقضي أحكاما بالسجن.

وأوضح أن تحقيقا شاملا أجري في واقعة حديثة، وقد تم توجيه اتهامات إلى سبعة من الجنود، على الرغم من إسقاط ستة منها وتمت تبرئة السابع، فيما سيخضع جندي مارينز ثامن إلى المحاكمة في يناير (كانون الثاني).

وقال بوكانان: «نحن نأخذ كل هذه الأشياء على محمل الجد، ونحن نقيم محاكمات فعلية، ونعاملهم وفق القانون، وإذا ما وجدوا غير مذنبين، فلن نحكم على أحد بالسجن». وفي تفسير لتعطل المحادثات بين قضية الحصانة، ألقى الجيش الأميركي باللائمة تحديدا على سلوك المتعاقدين الأمنيين، فأشار بوكانان إلى حادثة ميدان النسور في العراق، والتي قتل خلالها موظفو شركة «بلاك ووتر» 17 مدنيا في دائرة مرورية مكتظة في عام 2007.

وعلى الرغم من أن حادثتي حديثة والنسور ستظلان رموزا واضحة لكل العراقيين، فإنها تظل محيرة كحال الحوادث الأصغر، والتي لم يرو عنها لمدنيين قتلوا على نقاط التفتيش أو بالقرب من قافلات جنود متوترين يخشون من تعرضهم لهجوم وشيك، بحسب بيتر فان بيردن، مسؤول وزارة الخارجية الذي عمل مع فريق إعادة الإعمار المؤقت في الفترة بين عامي 2009 و2010، والذي عبر عن دهشته عندما وصل إلى هنا، من الهوة بين المنظور الأميركي والعراقي بشأن الحرب. ويقول مستشهدا بواقعة عندما كان يوزع أشجار الفاكهة على الفلاحين في منطقة ريفية: «كنا نحاول إقناعهم بأننا أشخاص طيبون، وأننا خلصناهم من صدام، لكن كل هذا الكم من القتلى الذين سقطوا، ما كان ذلك ليجدي نفعا»، فقد رفض أحدهم قبول الفسائل وبصق على الأرض. فقد قتل ابنه في حادث عرضي على يد القوات الأميركية، وقال الفلاح «وأنت هنا لتعطيني شجرة فاكهة».

وأضاف فان بيرن: «إن هذه الكراهية في الماء والهواء. إنها الخلفية لكل ما نقوم به. فالعراقيون لا يزالون يذكرونه حتى وإن غاب عنا. وسيكون ذلك تاريخا مظلما للغاية وسيظل يطاردنا أينما حللنا في الشرق الأوسط». ويعترف الضباط الذين عملوا في العراق بأن مثل حوادث القتل هذه أفسدت العلاقات، لكنهم أشاروا إلى أنه لم يكن بالإمكان فعل الكثير للحيلولة دون سقوط ضحايا من المدنيين، فيقول الكولونيل المتقاعد، بيتر منصور، الذي قاد لكتيبة قتالية في بغداد بين عامي 2003 و2004 ثم عاد كضابط تنفيذي للقائد الأعلى الجنرال ديفيد بترايوس خلال زيادة عدد القوات.

وقال منصور: «في أكثر الحالات كانت الظروف ضبابية إلى حد بعيد، فلم يكن العدو يرتدي زيا عسكريا، ومن ثم كانت القوات الأميركية تطلق النيرات وتصيب المدنيين، ومن الصعب تحديد الملوم في ذلك».

ويذكر حادثتين وقعتا أثناء عمله في العراق في عام 2003 عندما قام الجنود تحت قيادته بإطلاق الرصاص على مدنيين عن طريق الخطأ، عندما قامت عائلة من ستة أفراد بالقيادة بصورة عفوية إلى منطقة اشتباكات بين القوات الأميركية ومتمردين، ولاحقا عند نقطة تفتيش عندما رفضت عائلة كانت تحمل طفلا إلى المستشفى التوقف.

وقد تعلم الجنود الدروس مع مضي الحرب، فقد تعلموا إنشاء نقاط تفتيش جعلت الحدود أكثر وضوحا، وبعد زيادة عدد القوات، عندما توجه الجنود الأميركيون للعيش في الدول المجاورة، تعلموا التفرقة بين الصديق والعدو.

وقال منصور عن المدنيين الستة الذين قتلهم جنوده: «أنا على يقين من أن هذه العائلات لن تغفر لنا عمليات القتل هذه، لكنك عندما تنظر إليها من وجهة نظر الجنود ستجد أنها مبررة. إنه لأمر صعب للغاية، ومن الواضح أنها ستؤدي إلى نيات سيئة».

لا توجد قيود على سوء النية الذي يحيط بحديثة، مدينة النخيل الجميلة التي يقطنها 43.000 نسمة والمتاخمة لبحيرة في قلب صحراء محافظة الأنبار. وقد محيت الآثار الخارجية لأعمال العنف، فقد تم إصلاح الجسر الواقع على نهر الفرات، والذي قطع عليه من قبل جماعة القاعدة رؤوس المشتبه في تعاونهم مع القوات الأميركية، قبل أن تقصفه الطائرات الحربية الأميركية، وتم إصلاح المنطقة على جانب الطريق التي انفجرت فيها القنبلة التي زرعت على جانب الطريق.

المنزل الذي قتل فيه سبعة من عائلة حميد لا يزال خاويا، والمنزل الذي قتل فيه ثمانية من أعضاء عائلة يونس فيسكنه أقارب لهم.

عائلة العنيزي فقط هم الذين يعيشون في منزل متواضع داكن اللون، والذي قتل فيه أربعة رجال من أسرتهم في غرفة بمؤخرة المنزل على يد اثنين من رجال مشاة البحرية، بينما ظل الثالث يراقب في غرفة مجاورة والد الأشقاء وزوجاتهم وخالد، الذي كان في الرابعة عشرة من العمر آنذاك، ابن أحد الأشقاء القتلى.

ويقول خالد «حاولت قراءة اسم الجندي على بذلته العسكرية عندما دخل المنزل، لكنها كانت مغطاة بالدماء وكانت أيديهم والواقي من الرصاص مغطاة بالدماء، كانوا يسعون فقط إلى الانتقام. وعندما دخلوا كنت أرى الدموع في عيونهم، وعندما خرجوا كان يضحكون».

ويضيف يوسف، عم خالد، الأخ الوحيد الناجي من المذبحة، والذي لم يكن في المنزل في ذلك الوقت: «إنهم متوحشون».

وأشار يوسف إلى أنه بعد نشر مجلة «تايم» الواقعة عام 2006 تغير موقف الجيش الأميركي، فجاء مكتب التحقيقات الفيدرالي للتحقيق في الواقعة وتلقت كل عائلة تعويضا 2.000 دولار لكل قتيل في هذه المذبحة، ووعدونا بتقديم المسؤولين عن المذبحة.

لكن حماسة التحقيقات فترت بعد ذلك، وسمع يوسف تقارير إخبارية بأن كل التهم التي وجهت إلى الجنود الذين شاركوا في المذبحة قد أسقطت قبل عامين تقريبا، ولا يستطيع المسؤولون المحليون تذكر المرة الأخيرة التي زار فيها الأميركيون مدينتهم. ومن ثم فلن يكونوا موضع ترحيب إذا ما قاموا بذلك.

ويقول يوسف، الذي لم يعزه انسحاب الجنود الأميركيين في مصابه، أو أي إحساس بانتهاء القضية بالنسبة له: «نتمنى لو لم يأتوا على الإطلاق، فالظلم جريمة أكبر من الجريمة ذاتها. ولقد تيقنا الآن من أن العدالة لن تتحقق على الإطلاق».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط» > شارك في إعداد التقرير عثمان المختار وأسعد مجيد