يابانيون يتمسكون بالعيش في جزر نائية رغم البراكين

يعودون إليها بعد انتهاء فترة الإجلاء ويرفضون البقاء في طوكيو والمدن الكبرى

صورة أرشيفية لعملية إجلاء سكان من جزيرة مياكي بعد ثوران البركان فيها (إ.ب.أ)
TT

تقول يوكي كيتاغاوا، وهي تشير إلى منقي الهواء في غرفة المعيشة الخاصة بها: «إنني أدير الآلة عندما تنتشر رائحة الكبريت في المنزل». وتضيف هذه المرأة البالغة من العمر 63 عاما: «إنني أتساءل ما إذا كنا سنتمكن حقا من العيش هنا مرة أخرى، فقد اعتدت شم رائحة الكبريت».

وكانت مياكي، وهي جزيرة صغيرة تقع في المحيط الهادي وتبعد عن طوكيو 120 ميلا من ناحية الجنوب، سجنا نائيا من القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر. إلا أنها الآن تجذب محبي الغوص تحت الماء الذين يسعون إلى السباحة مع الدلافين والسلاحف البحرية. كما تحتشد الأسماك المدارية الملونة في المياه الزرقاء الضحلة لمياكي.

لكنها ليست جزيرة نموذجية للاستجمام، حيث يتسبب بركان نشط في انتقال سكان الجزيرة، بشكل دوري، إلى اليابسة اليابانية بحثا عن الأمن، كان آخرها في الفترة ما بين عام 2000 وعام 2005، عندما تم إجلاء الجزيرة بأكملها. وقد حافظ الارتباط العميق لسكان الجزيرة بهذا المكان الغريب والقاسي على مياكي لقرون، تماما مثلما حال ارتباط اليابانيين بمسقط رأس أسلافهم دون زوال الكثير من المجتمعات المحتضرة في جميع أنحاء اليابان.

لكن أعداد السكان الآن تشير إلى مستقبل تشوبه الشكوك بالنسبة لمياكي؛ فرغم مرور ستة أعوام على السماح لسكان الجزيرة بالعودة إليها، فإنه لم يعد سوى 70 في المائة من السكان الأصليين للجزيرة. كما تقلص عدد السكان من 4.700 نسمة في السبعينات من القرن الماضي إلى 2.700 نسمة فقط.

وأصبحت الجزيرة، التي كانت تضم خمس قرى صغيرة وخمس مدارس ابتدائية لكل قرية، قرية واحدة بها مدرسة واحدة فقط. كما انخفض عدد طلبة المرحلة الثانوية من مدرسة مياكي الثانوية، وذلك مع قيام الكثير من الآباء بإرسال أبنائهم إلى مدارس طوكيو.

وتقدم مياكي، مثلها مثل الكثير من قرى الريف الياباني، عددا قليلا من فرص العمل للشبان، كما مكث الكثير من سكان الجزيرة من الشباب في طوكيو بعد أن ذاقوا طعم الحياة بها عندما تم ترحيلهم من الجزيرة. وحتى اليوم، تنتشر الرائحة الدقيقة لغاز ثاني أكسيد الكبريت في الجزيرة، كما تسبب الغاز في موت الأشجار التي كانت تتناثر في كل أنحاء الجزيرة، وأصبحت تدفقات الحمم البركانية، مع الانفجارات التي تحدث كل 20 عاما، بمثابة تذكير لسكان الجزيرة حتى يتوقعوا حدوث عدة انفجارات بركانية رئيسية على مدار حياتهم.

بيد أن ارتباط اليابانيين بمنازل أسلافهم، على الرغم من كونها لا تصلح للمعيشة، دفع بالكثير من سكان الجزيرة إلى العودة بعد كل عملية ترحيل يتعرضون لها، وذلك على الرغم من المخاطر. وبالفعل، أصبحت عملية الترحيل الإجباري لعشرات الآلاف من الناس الذين عاشوا بالقرب من منشأة فوكوشيما دايشي النووية بعد كارثة زلزال مارس (آذار) 2011، أحد أكثر القضايا الحساسة التي تواجه زعماء اليابان، الذين أخبروا سكان الجزيرة الغاضبين مؤخرا بأنهم لن يتمكنوا من العودة إلى منازلهم لعقود.

وبالنسبة لنوبو كيتاغاوا، زوج السيدة كيتاغاوا الذي يبلغ الخامسة والستين من العمر، يعد هذا الانفجار البركاني ثالث انفجار يشهده في حياته. وتم إجلاء عائلة كيتاغاوا، مثل الكثير من السكان، إلى طوكيو. وقال كيتاغاوا، بينما كان يميل إلى ثمار البطيخ والخيار وغيرها من الخضروات التي يزرعها في الفناء الخلفي لمنزله: «في طوكيو، لم يكن لدي شيء أقوم به خلال عطلة نهاية الأسبوع سوى إنفاق المال».

وعلى الرغم من أنه يتعين على سكان مياكي ارتداء أقنعة الغاز، فإنه خلال زيارة أخيرة لهذه الجزيرة، تمت مشاهدة قلة فقط من الناس يقومون بذلك. لم يبد الكثير من السكان منزعجين بسبب رائحة الكبريت. وعلى الرغم من حظر التجول في بعض مناطق الجزيرة نظرا لارتفاع معدل الغازات البركانية بها، فإنه يسمح بمرور السيارات في هذه المناطق، إلا أن السائقين يميلون إلى إبقاء النوافذ مغلقة. وتعلن الحكومة المحلية، كل صباح، نسبة غاز ثاني أكسيد الكبريت من خلال مكبرات صوت تصل إلى جميع أنحاء الجزيرة. وهناك أيضا إشارات إنذار زرقاء وخضراء وصفراء وحمراء ملحقة بأعمدة الكهرباء توضح معدلات الغاز في المنطقة. وقد جعلت معدلات الكبريت المستمرة هذه الجزيرة النائية أكثر عزلة، فغالبا ما تلغى الرحلات الجوية التي تصل مياكي باليابسة لأن الرياح تحمل غازات بركانية تلحق الضرر بمحركات الطائرات؛ ويعتمد غالبية سكان الجزيرة على معبر نهري يستخدمونه ليصلوا إلى طوكيو في غضون ست ساعات. ولا يوجد سوى أربعة أطباء مقيمين يديرون العيادة الوحيدة الموجودة هنا، ولذلك يضطر السكان إلى الذهاب إلى طوكيو لعلاج أي مرض أو إصابة خطيرة.

وذكر يوشي أوكياما أنه لم يفكر يوما في العودة إلى مياكي بعد أن ذهب إلى الجامعة في طوكيو. لكن عندما زال أمر الإجلاء عام 2005، زار أوكياما الجزيرة لتنظيف منزل أسلافه. ووجد السقف خربا وقد نمت الأعشاب البرية في الحديقة كما وجد شاحنة الأسرة تالفة بسبب الرماد البركاني. وبعد هذه الزيارة، قرر أن يترك عمله في طوكيو والعودة إلى مياكي. وهو الآن يدير محلا لبيع الهدايا التذكارية. وقال إنه يجب ألا يترك مسؤولية انتعاش مياكي إلى جيل والديه، أو الأشخاص الذين يبلغون السبعين من عمرهم، «على أن أنهض». هذا على الرغم من أنه ترك زوجته وابنتيه في طوكيو بسبب تعليم الطفلتين.

وكانت ميشيكا يامادا، وهي أخت لأوكياما تبلغ من العمر 40 عاما، قد قدمت من طوكيو لزيارة الجزيرة، بعد أن تسبب انفجار البركان والحمم المتدفقة منه عام 1983 في تدمير مدرستها ومنزلها والمنطقة المجاورة لها. وتقول: «لقد ذهب كل شيء. ليس لدي أي صور لمرحلة الطفولة. لقد تم دفن جميع ذكرياتي تحت الحمم البركانية». وأضافت: «أفتقد الجزيرة في بعض الأحيان. لكنني لا أتمكن من العودة عندما أفكر في أنني قد أفقد كل شيء مرة أخرى».

وقد عاد كينيشيرو كيكوشي (36 عاما) الذي يملك حانة هنا. وقال: «كنت في مرحلة طفولتي مهووسا بطوكيو. كنت أشاهد الطائرات من مياكي تطير في السماء، وأعتقد أن طوكيو توجد فوق السحاب. لكن عندما وجدت أن عبارة من مياكي تصل إلى رصيف طوكيو، أقلعت عن هذا الهوس». وقال مازحا: بالنسبة لطفل نما على الجزيرة كانت عوادم طوكيو تعد «رائحة نقية وأكثر تقدما». وعندما تم رفع أمر الإجلاء قبل ست سنوات، اختار أن يعود إلى هنا. وعندما سئل عن سبب ذلك، أجاب بخجل: «الأمر بسيط. إنني ولدت هنا، لذلك عدت».

*خدمة «نيويورك تايمز»