عجوز مصري من «السلاح الملكي» يدلي بصوته للمرة الأولى

عاصر الرؤساء الأربعة وذاق مرارة الفقر ويأمل في مستقبل أفضل لأحفاده

TT

في ميدان الدقي المحاط بمبانٍ راقية في محافظة الجيزة جلس الحاج سيف أحمد البالغ من العمر 85 عاما على كرسيه المتحرك، منتظرا زوجته ليعودا إلى بيتهما معا، وذلك بعد أن أدلى بصوته للمرة الأولى منذ ستين سنة في المرحلة الثانية من الانتخابات النيابية المصرية. وكان الحاج أحمد أمضى نحو 10 سنوات في سلاح المشاة الملكي خدم خلالها على كل الجبهات المصرية في عهد الملك فاروق، وخبر فترات حكم الرؤساء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات، وحسني مبارك.

ومنذ هيمن الجيش على السلطة عام 1952، وطوال نحو ستين عاما، لم يكن الحاج أحمد يرى جدوى من الإدلاء بصوته في أي انتخابات أو استفتاءات، بعد أن شاع في البلاد التصويت الصوري الذي تأتي نتائجه حسب ما تريده السلطة الحاكمة، سواء صوّت الناس بنعم أو بلا. وبينما كانت حلقات السياسة والاقتصاد تضيق، بسبب طول تجريب الحكام لنظم إدارة الدولة، كانت الظروف المادية والمعيشية للحاج أحمد تسوء يوما بعد يوم.

وبالأمس تحدث العجوز عن تجدد الأمل لديه في أن تتحسن أحوال مصر، وأحواله، بعد ثورة الشعب في 25 يناير (كانون الثاني)، وبالتالي تتحسن أحواله، ويخرج من حالة الفقر المدقع التي حولت حياته طوال عقود إلى كابوس، خاصة مع ارتفاع الأسعار وظلم نظم المعاشات والتأمينات والعلاج.. ويقول: «أريد أن أرى التغيير على الأرض ولا أريد أن أبقى فقيرا محتاجا». وهو يتمنى أن يرى تغير الحال وأن يلمسه بيديه ويراه بعينيه حتى يطمئن على حال أولاده وأحفاده.

ومنذ بدأت الجولة الأولى لأول انتخابات للبرلمان بعد 25 يناير، حرص الآلاف من المسنين وكبار السن والمقعدين على المشاركة في الإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع، في مظهر لفت نظر الكثير من المراقبين ووسائل الإعلام، وعكس رغبة الشعب المصري في تأسيس حياة جديدة يصنعون فيها الديمقراطية الخالية من تزوير الانتخابات.

ورغم السن المتقدم للحاج أحمد، ورغم قسوة الزمن الذي ترك علاماته على وجهه، ورغم فقره وظروفه الصحية الصعبة، فإنه بدا منشرح البال وسعيدا حين تمكن أمس من الوصول للجنة «مدرسة الأورمان» في ضاحية الدقي ليدلي بصوته، ويغمس إصبعه في الحبر الفسفوري الخاص بمن أدلوا بأصواتهم، قائلا إنه لأول مرة منذ زمن بعيد يشعر بأنه يضع «طوبة» في بناء مستقبل أولاده. وأضاف: «أنا مصري، أحب بلدي، وكان لا بد أن أنتخب.. هذه أول مره أنتخب وربنا يصلح حال البلد».

ويقول الحاج أحمد وهو جالس على كرسيه المتحرك إنه لا يهتم بالصراعات بين الأحزاب ولا سيطرة التيارات الإسلامية على غالبية المقاعد في المرحلة الأولى، فهو يرى أن عمره لم يتبق فيه إلا أيام قليلة. ويقول الرجل العجوز إنه صوت لقائمة حزب من الأحزاب الليبرالية العتيقة، مشيرا إلى أنه كان حائرا أمام كثرة عدد المرشحين سواء في القوائم الحزبية أو على المقاعد الفردية.

يتابع الحاج أحمد: «المرشحون أعدادهم كبيرة جدا. لم نكن نرى هذا من قبل». وأضاف متحدثا بفخر: «العساكر (جنود تأمين اللجان) حملوني إلى داخل اللجنة، وأخبرني القاضي بكل ود وحب كيف اختار فأنا لا أجيد القراءة والكتابة.. كانوا متعاونين معي، ووضعت الورق في الصندوق، ثم حملني العساكر مرة أخرى إلى خارج المدرسة، وودعتهم وأنا فخور بهم، وها أنا أقف أنتظر زوجتي».

وتحدث الرجل عن معاناته في عهد مبارك والتي عاش خلالها أكثر من 30 عاما بين الفقر والجوع، مشيرا بيده التي ترتعش بسبب تقدم سنه: «حين كانت لدي صحة عملت في أعمال كثيرة لأكسب رزقي بيدي، والآن أنا عجوز بلا صحة.. ونعاني من شدة الفقر لكن أصبح لدينا أمل في المستقبل»، متذكرا ولديه وأحفاده الثمانية، وما يمكن أن تحققه لهم الثورة في السنوات المقبلة.

ويعيش الحاج أحمد مع زوجته العجوز التي تعينه على الحياة وتؤنس وحدته. وهو أصلا من مواليد محافظة المنيا (جنوب القاهرة) ويعيش منذ عقود في إحدى المناطق الشعبية في ضاحية الدقي. ويتقاضى الحاج أحمد مثل ألوف من الكهول الفقراء، معاشا شهريا زهيدا لا يتجاوز 25 دولارا، لا يعينه على العيش في وسط غلاء المعيشة. وعبر الحاج أحمد عن حبه للثورة حين قال بعينين دامعتين: «جاءت الثورة وأنا عجوز فلم أستطع اللحاق بالشباب إلا مع الانتخابات». وبعد أن فرغت زوجته العجوز هي الأخرى من الإدلاء بصوتها جاءت لتدفع زوجها على مقعده المتحرك ويختفيا وراء زحام الناخبين ولافتات المرشحين.