«حكم تاريخي» بالسجن عامين مع وقف التنفيذ على الرئيس الفرنسي السابق

المحكمة أدانت جاك شيراك بتهم الاختلاس وسوء استخدام السلطة والاستفادة غير المشروعة

الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك (رويترز)
TT

لم يكن الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، حاضرا عند تلاوة الحكم الذي أصدرته بحقه محكمة الجنح في باريس، إذ فضل التغيب كما تغيب منذ بداية المحاكمة التي انعقدت ما بين 5 و23 سبتمبر (أيلول) الماضي، وذلك بحجة حالته الصحية و«الأعراض العصبية المزمنة» التي يعاني منها، وفقا لتقرير طبي رسمي قدم إلى المحكمة، التي قبلته منذ البداية. لكن غياب شيراك الذي تربع على عرش الإليزيه طيلة ولايتين (ما بين عامي 1995 و2007) لم يقدم أو يؤخر في إصدار الحكم، كذلك لم يؤثر على القضاة مطالبة الادعاء العام التابع لوزارة العدل إخلاء سبيل الجميع، وعلى رأسهم شيراك. وكانت المحصلة أن حكم على الرئيس السابق بالسجن لمدة عامين مع وقف التنفيذ. ومن بين المتهمين العشرة جان ديغول، النائب السابق وحفيد الجنرال ديغول، واثنان أخلي سبيلهما، وثمانية حكم عليهم بالسجن مع وقف التنفيذ. لكن الحكم الأقصى جاء بحق شيراك، فيما تراوحت أحكام الآخرين ما بين شهرين وأربعة أشهر.

ومع هذا الحكم، الذي وصفه جورج كيجمان، أحد محامي شيراك بأنه «خفيف قضائيا ورهيب سياسيا»، يكون الرئيس السابق البالغ من العمر 79 عاما، أول رئيس للجمهورية الفرنسية «يجرجر» إلى المحاكم ويصدر بحقه حكم قضائي. وباستثناء حالة المارشال بيتان الذي اتهم بالخيانة وحكم عليه بالإعدام بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تعرف فرنسا حالة شبيهة بحالة شيراك. وبعد أن كان شيراك الآمر الناهي والرجل الذي تدور حوله الحياة السياسية، ليس فقط عندما كان رئيسا للجمهورية، بل أيضا عندما ترأس حكومة بلاده مرتين، وعين وزيرا في الكثير من المرات وزعيما للحزب الديغولي منذ السبعينات، ها هو الحكم الصادر بحقه ينزله عن عرشه ويساوي به أي مرتكب لجنحة أو جناية.

لم يخطئ رئيس المحكمة إيف بوت عندما أعلن أن هذا الحكم يعني بالدرجة الأولى أن «الناس متساوون أمام القانون». وعلى الرغم من اعتباره وتأكيده أن شيراك ارتكب الجنح المنسوبة إليه، التي يعاقب عليها القانون، فإنه حرص على الإشادة به وبالخدمات التي قدمها لبلاده رئيسا ووزيرا ومسؤولا. وشدد المحامي كيجمان الذي سبق لشيراك أن عينه وزير دولة، على القول إن المحكمة اعترفت أن شيراك «لم يسع للتربح الشخصي» في التهم الموجهة إليه. وأعلن كيجمان أن شيراك سيقرر لاحقا مع إذا كان يرغب في استئناف الحكم أم أنه يفضل إغلاق الموضوع وتحاشي العودة مجددا أمام المحاكم، خصوصا إذا أخذ بعين الاعتبار أن فرنسا مقبلة على انتخابات رئاسية في الربيع المقبل، وأن الأكثرية السياسية يمكن أن تتغير بحيث يصل اليسار إلى الحكم مع المرشح الاشتراكي، فرنسوا هولاند ما يعني أن موقف النيابة العامة المرتبطة بالسلطة السياسية قد يظهر «التفهم» نفسه الذي أظهرته النيابة الحالية.

وليست التهم المنسوبة لشيراك، التي بني الحكم عليها جديدة، بل إنها تعود للأعوام 1990 و1995، أي للفترة التي كان شيراك يشغل فيها رئاسة بلدية باريس. إلا أن الحصانة الدستورية التي تمتع بها شيراك ما بين 1995 و2007 حمته من براثن القضاء الذي عاد للانقضاض عليه بعد شهر فقط من رحيله عن قصر الإليزيه. وعلى الرغم من المماطلات والتأجيلات وراء حجج قانونية ضعيفة، حصلت المحاكمة وانتهت إلى «حكم تاريخي» جاء ليلطخ سمعة الرئيس السابق وينغص عليه بقية حياته. والمفارقة أن شعبية شيراك ارتفعت بعد خروجه من قصر الإليزيه. وتعود المأساة الشيراكية لما يسمى بـ«فضيحة الوظائف الوهمية» وقوامها أن شيراك والطاقم الذي كان يدير معه بلدية باريس متهم باستغلال منصبه لتعيين موظفين يتسلمون رواتبهم من بلدية باريس، بينما هم في الواقع يعملون لصالح حزب التجمع من أجل الجمهورية، الذي أسسه شيراك في عام 1976 وتزعمه حتى وصوله إلى الرئاسة، أو كانوا يوضعون في خدمة أصدقائه السياسيين أو الذين يرغب في إسداء خدمات لهم. وتعد هذه الوظائف الوهمية بالعشرات. غير أن المحكمة اختارت منها 28 حالة مثبتة، وهي التي استندت إليها في إصدار حكمها. وأدين شيراك بتهم «اختلاس أموال عامة» و«استغلال السلطة» و«الاستفادة بطريقة غير شرعية». ولو طبق القانون بحرفيته على الرئيس السابق لحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات، وغرم 150 ألف يورو.

غير أن شيراك سعى لاستباق المحاكمة وتسوية الوضع مع بلدية باريس بالاتفاق مع حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليميني الذي ورث حزب التجمع من أجل الجمهورية عن طريق دفع ما يزيد على مليوني يورو كتعويضات للبلدية عن الضرر المالي الذي لحقها. وقبلت بلدية باريس التي يرأسها الاشتراكي برتراند دولانويه التسوية، وأسقطت الادعاء الشخصي. لكن الحق العام لم يسقط واستمرت الدعوى التي انتهت قبيل ظهر أمس بصدور الحكم. غير أن خواتيمها لم تكتب بعد بانتظار أن يقرر شيراك ومحاموه الاستئناف من عدمه.

وهذه المرة الأولى التي يقع فيها شيراك في براثن العدالة؛ إذ مل القضايا والفضائح التي أثيرت بحقه وقت كان رئيس بلدية باريس، ومنها الحصول على عمولات من العقود المبرمة سقطت من نفسها ولم تصل أبدا إلى المحاكم. وكان لافتا أمس صمت وزير الخارجية ألان جوبيه الذي أدين سابقا بالتهم نفسها، نظرا للمسؤوليات التي كان يتحملها إلى جانب شيراك. وكان حكم على جوبيه بالسجن 14 شهرا مع وقف التنفيذ وبحرمانه من حقوقه المدنية اقتراعا وانتخابا ما دفعه إلى ترك فرنسا واللجوء إلى كندا طيلة هذه الفترة.

وتفاوتت ردود الفعل فرنسيا بحسب الانتماء السياسي، وجاء الأعنف منها من مرشحة الخضر إلى رئاسة الجمهورية إيفا جولي، وهي قاضية تحقيق سابقة. وأعلنت جولي أن «العدالة أخذت أخيرا مجراها على الرغم من العقبات التي وضعت بوجهها». لكن الأهم أنها دعت شيراك إلى تقديم استقالته من المجلس الدستوري الذي هو عضو فيه بصفته رئيس جمهورية سابق. وفيما اعتبر رئيس الحكومة فرنسوا فيون أن الحكم «جاء متأخرا جدا»، أعرب نائب يمين عن «حزنه» لما يصيب شيراك، الذي وصفه بأنه كان «رئيسا كبيرا للجمهورية وأسدى خدمات كبيرة لبلده». واكتفى المرشح الاشتراكي فرنسوا هولاند بالقول إن القضاء «قال كلمته»، مبديا بعض الأسى لما حصل لرئيس السابق الذي تربطه به علاقة جيدة على الرغم من وجودهما على طرفي نقيض على الخريطة السياسية الفرنسية. وحتى عصر أمس لم يكن قد صدر أي ردة فعل عن الرئيس ساركوزي، خليفة شيراك في قصر الإليزيه ووزيره طيلة خمس سنوات ما بين 2002 و2007.