شيراك الرجل الذي خان وعانى من الخيانة

تمرد على سلطة والديه.. وترك اليسار الشيوعي واتجه يمينا ملتحقا بحزب ديغول

TT

قلائل هم رجال السياسة الفرنسيون الذين تصل قامتهم إلى قامة الرئيس السابق، جاك شيراك، أو أنهم تركوا بصماتهم على الحياة السياسية في فرنسا، كما فعل شيراك. فالرجل الذي يهوى الشعر، ويحب مصارعة السومو اليابانية، ويعشق النساء وبيرة كورونا المكسيكية، وأكلة رأس العجل والنقانق، ملأ الدنيا وشغل الناس طيلة عقود. أبدى ميلا واضحا للسياسة منذ شبابه بائعا لجريدة «لومانيتيه» الشيوعي قريبا من معهد العلوم السياسية، حيث تربى نخبة الطبقة السياسية في فرنسا.

تمرد على سلطة والديه اللذين ينتميان إلى الطبقة الوسطى في منطقة لا كوريز، التي تقع وسط فرنسا. ترك اليسار الشيوعي، واتجه يمينا ملتحقا بحزب الجنرال ديغول. أعجب باكرا بالولايات المتحدة الأميركية، وبأسلوب العيش فيها، مستذكرا كل مرة سنحت له الفرصة أنه عمل في مطعم نيويوركي. وبعد خدمته العسكرية التي قضاها في الجزائر إبان حرب التحرير واستكمال تحصيله الجامعي في أهم معهدين (معهد العلوم السياسية في شارع سالن غيوم في باريس ومعهد الإدارة العالي غير البعيد عنه) تدرجت خطوات شيراك السياسية متكئا على دعامتين أساسيتين مكنتاه من الاستواء على مطيته، هما زواجه وقربه من أحد أهم رجال الصناعة الحربية في فرنسا.

ابتسم الحظ لشيراك المولود في باريس عام 1932 من والدين ينتميان إلى منطقة لا كوريز، عندما وصل إلى معهد العلوم السياسية عام 1951، حيث تعرف على زميلة دراسة له اسمها برناديت شودرون دو كورسيل المنتمية، كما يدل على ذلك اسمها، إلى البورجوازية الفرنسية العليا، مع ما يعني ذلك من علاقات ومستوى اجتماعي ووضع مالي.

وسريعا، ارتبط الاثنان بعلاقة حميمة أفضت بهما إلى الخطبة ثم إلى الزواج عام 1956. وابتسم الحظ لشيراك مرة ثانية، عندما تبنى صعوده السياسي مارسيل داسو، صاحب مصانع الطائرات «ميراج» الواسع النفوذ في الدوائر الفاعلة سياسيا واقتصاديا. وبفضل هذين العاملين وخصوصا طموح الشاب شيراك، انفتحت أبواب الإدارة أولا أمام رئيس المستقبل مباشرة بعد انتهاء دروسه وعودته للمرة الثانية من الجزائر، ووصل إلى المحيط المقرب من رئيس الوزراء، جورج بومبيدو. وتنقل شيراك في الكثير ممن المناصب الإدارية اللصيقة بدوائر القرار حتى صلب عوده. وفي عام 1966، أرسله بومبيدو لخوض المنافسة الانتخابية في مسقط رأس أهله في لا كوريز، لانتزاع المقعد النيابي من منافس شيوعي. وبفضل دعم عائلة زوجته المتحدرة هي أيضا من منطقة لا كوريز وعلاقات مارسيل داسو الموجود صناعيا وبقوة في هذه المنطقة، فاز شيراك بالانتخابات، مما فتح أمامه أبواب الوزارة على مصراعيها؛ فإذا به يصبح في عام 1967 أصغر وزير سنا في حكومة بومبيدو.

وفي العام التالي، لعب شيراك دورا مهما إلى جانب رئيس الوزراء في الربيع الطلابي الفرنسي الذي كاد يطيح بالنظام، وأفضى لاحقا إلى الاستفتاء الذي اختاره ديغول لاستعادة شرعية سلطته. لكن ديغول خسر الاستفتاء فانسحب متألما إلى قريته كولومبيه ليه دو ايغليز، تاركا الميدان مفتوحا لبمومبيدو الذي أصبح ثاني رئيس للجمهورية.

ومع بومبيدو في الإليزيه، أصبح شيراك النجم الصاعد؛ إذ شارك في كل الوزارات التي تشكلت ما بين عامي 1967 و1974، حيث توفي بومبيدو وفتحت المنافسة القاتلة بين الباحثين عن خلافته. الخيانة الأولى:

ذاك العام، بين شيراك عن حس مكيافيللي متطور يملكه القليلون من المشتغلين في الحقل العام. وفي ذاك العام قرر شيراك أن الوقت حان بالنسبة إليه ليلعب الأدوار الأولى، حيث أعلن جاك شابان دلماس الديغولي ترشيحه للرئاسة، كما فعل ذلك أيضا فاليري جيسكار ديستان، وزير المالية وأحد الوجوه اللامعة في السياسية والاقتصاد مرشحا عن تحالف الوسط. وبالمقابل، كان مرشح اليسار فرنسوا ميتران. وكان من الطبيعي أن يدعم شيراك الديغولي شابان دلماس. إلا أنه اختار أن يخون «المرشح الطبيعي»، وأن يدعم مع أصدقائه من النواب والوزراء فاليري جيسكار ديستان الذي فاز في الدورة الثانية من الانتخابات. ولشكر شيراك على خيانته، سماه رئيسا للحكومة. وها هو شيراك في سن الثانية والأربعين رئيسا لوزراء فرنسا، الأصغر وقتها من بين كل الذين شغلوا قبله هذا المنصب.

لم يكن سهلا التعايش بين رئيس حكومة شاب وطموح ورئيس جمهورية شاب وطموح أيضا ولكنه راغب في أن يفهم الجميع، وأولهم رئيس حكومته، أنه صاحب الأمر والنهي. لذا لم يكن هناك مفر من الصدام. وبما أن الأول يتبع الثاني الأقوى دستوريا، فإن شيراك لم يتردد في الاستقالة من منصبه بعد عامين فقط على وصوله إلى قصر ماتينيون. لكنه مع خروجه قرر تشكيل حزب سياسي جديد على أنقاض الحزب الديغولي المترهل، فتوكأ على شخصيات مثل شارل باسكوا، وزير الداخلية السابق، ومستشاريه بيار جوييه وماري فرانس غارو، لإطلاق التجمع من أجل الجمهورية، الذي كان الغرض الأول منه إيصال شيراك إلى سدة الرئاسة عن طريق إضعاف جيسكار ومشاكسة سياسته، لا بل معارضتها بشكل مفتوح. وبما أن الانتخابات الرئاسية اللاحقة كانت متأخرة (1981) فقد رأى شيراك في انتخابات بلدية باريس بابا لتشكيل قاعدة جغرافية وسياسية ومالية ومنصة تضعه في مدار حول الإليزيه.

في ربيع عام 1977، أصبح شيراك رئيسا لبلدية باريس، وفي الوقت عينه، نائبا عن منطقة لا كوريز ورئيسا لحزب شعبي ومطواع. وأهمية رئاسة باريس أنها العاصمة التي «تستضيف» رئاسة الجمهورية، وهي تجعل من رئيس بلديتها مضيفا لكل الرؤساء الذين يأتون للعاصمة، مما يعني أنه سيبني بفضلها شبكة علاقات دولية مهمة. فضلا عن ذلك، تتمتع بلدية باريس بميزانية هائلة وموارد تعادل موارد دولة متوسطة. وهي إذا وبكل المعايير الشيء الذي يحتاجه شيراك للتحضر جديا للمعركة الرئاسية المقبلة، وبقي شيراك رئيسا للبلدية طيلة 18 عاما, تقول ألسنة السوء عن شيراك إنه لم يدفع طيلة حياته فاتورة كهرباء أو إيجار سائق أو بدل إيجار منزل؛ إذ عاش «على حساب الدولة أو البلدية».

وتعود كل الفضائح التي ارتبطت باسم شيراك لهذه الفترة. فمن فضيحة مئات الآلاف من الفرنكات لشراء الأطعمة والأغذية وكانت تصرف نقدا إلى مشتريات بطاقات السفر وفواتير الفنادق في الخارج إلى الوظائف الوهمية والعمولات التي عادت لأشخاص على ارتباط بشيراك أو بحزب التجمع من أجل الجمهورية، تراكمت قصص الفساد والمحسوبيات عن شيراك وأقرب العاملين معه من مديري مكتبه أو مستشاريه وخلافهم. لكن شيراك تمكن من احتواء كل ذلك.

وإذا كان فشل في عام 1981 في الفوز برئاسة الجمهورية، فإنه مرة أخرى أسهم في إسقاط مرشح اليمين وكان هذه المرة جيسكار ديستان، مسهلا فوز فرنسوا ميتران بالرئاسة التي عادت للمرة الأولى لليسار الفرنسي منذ تأسيس الجمهورية الخامسة. ولم يبتسم الحظ لشيراك إلا في المرة الثالثة، أي في عام 1995، حيث فاز مرة أولى على ليونيل جوسبان، مرشح الحزب الاشتراكي واليسار ثم فاز عليه مرة ثانية في العام 2002 ليترك الرئاسة عام 2007 لخليفته الحالي في الإليزيه نيكولا ساركوزي. ولكن ما بين وصوله إلى الرئاسة وخروجه منها، خاض شيراك معارك سياسية لم تكن دائما مضمونة النتائج؛ ففي عام 1995 «خانه» رئيس الوزراء أدوار بالادور، صديقه منذ ثلاثين عاما، الذي وصل إلى منصبه لأن الرئيس السابق أراد النأي بنفسه عن ترؤس حكومة تتعايش مع رئيس اشتراكي (ميتران)، كما فعل بين عامي 1985 و87، وأدى ذلك إلى كارثة سياسية بالنسبة إليه. لكن بالادور استساغ السلطة، فترشح للرئاسة بدعم من مجموعة وزراء ديغوليين، بينهم نيكولا ساركوزي نفسه. وبسبب هذه الخيانة، خرج ساركوزي من دائرة شيراك الحميمة إذ كان صديقا لابنته كلود. لكن الانتصار في المعركة الرئاسية كان مؤقتا؛ إذ إن صعوبات الحكم دفعت شيراك لحل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة خسرها اليمين، مما فرض على شيراك التعايش مع حكومة يسارية. وفي ولايته الثانية، عانى شيراك من المنافسة الحادة بين ساركوزي ودومينيك دوفيلبان، وكلاهما يدعي ولاية العهد. لكن الأول نجح في إبعاد الثاني من خلال السيطرة على الحزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، وترك الثاني يعاني وحده من الهزات الاجتماعية التي ضربت فرنسا في خريف عام 2005. وما زال التنافس بينهما قائما اليوم بعد أن انتقل من المحاكم بسبب ما يسمى فضيحة كليرستريم إلى الميدان السياسي. وقبل أيام، أعلن دو فيلبان ترشحه للانتخابات الرئاسية التي ستجرى ربيع العام المقبل ضد «المرشح الطبيعي» لليمين، الذي هو ساركوزي.