ممارسات قوات الأمن تلهب حماس الأطفال في الدفاع عن معتصمي «التحرير»

«محمد» ابن الـ14 ربيعا يرفض العودة إلى بيته قبل القصاص لأصدقائه

لقطة للطفل محمد ووالده عماد («الشرق الأوسط»)
TT

قرب مدخل ميدان التحرير من ناحية المتحف المصري بالقاهرة، الذي بات ليلته يذرف الدمع ناظرا إلى المجمع العلمي وألسنة اللهب تأتي على ما به من كنوز تاريخية، ظهر مسرع الخطى تكاد ضربات قلبه تخرج من صدره من شدتها، ونظر إلى من يسيرون بجواره آملا أن يجد لديهم ما قد يعيد التفاؤل إليه، وسأل بصوت مرتجف: «يا أستاذ.. أنا ابني معتصم هنا من يومين ولا أعرف أين هو وهل أصيب أم مات.. معي أرقام المستشفيات لكن لا أحد يرد علي.. أعمل إيه؟».

أسئلته لم تجد إلا الصمت وبعض الكلمات التي حاولت بعث الأمل دون جدوى. عماد عبد الله الذي يعمل مدرسا بالقاهرة، هو أحد هؤلاء البسطاء الذين لا توجد أي صلة قرابة بينهم وبين ميدان التحرير إلا عند قضائهم لحوائجهم، ربما مجبرين للذهاب إلى مجمع المصالح الحكومية بالتحرير.

عماد (40 عاما) فوجئ لحظة دخوله الميدان لأول مرة منذ أعوام كما ذكر، وقال: «لقد تغير الميدان كثيرا عن آخر مرة رأيته فيها»، ولكنه ما إن تجاوز الميدان حتى وجد ذلك الممر المظلم المؤدي إلى شارع القصر العيني حيث تجري اشتباكات عنيفة بين متظاهرين وقوات الأمن. سار عماد بخطوات ثقيلة، باحثا في وجوه المارة والمتظاهرين لعله يجد ابنه الأكبر محمد ابن الـ14 ربيعا، والذي انقطع اتصاله به منذ تفجر الاشتباكات ظهر الجمعة الماضي.

وبينما كان مئات المتظاهرين يرددون هتافات على فترات متفرقة مناهضة للمجلس العسكري الحاكم في مصر منذ فبراير (شباط) الماضي، كان عماد يقول بصوت قلق: «الستر من عندك يا رب... الستر من عندك يا رب». لكن بمرور الوقت تزايد قلقه أكثر على خلفية إلقاء مجهولين لكرات اللهب على المتظاهرين من فوق مبنى المجمع العلمي المحترق في قلب الشارع، ما أوقع إصابات بين المتظاهرين أسفله، وبدا وكأنه يحدث نفسه: «أنا حبسته أكثر من مرة في البيت وكل مرة كان يهرب للميدان».

وكانت اشتباكات عنيفة اندلعت ظهر الجمعة الماضي في محيط المؤسسات الحيوية في وسط القاهرة، بعد أن قامت قوات الجيش المصري بالاشتباك مع مئات من المعتصمين أمام مجلس الوزراء، وهو ما تكرر أول من أمس السبت حين اقتحم الجيش المصري ميدان التحرير مخلفا قتلى ومصابين.

لكن عماد، الأب لخمسة أبناء آخرين، التقط أنفاسه حين وجد ابنه الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره قادما من داخل هذا النفق المظلم لاهثا، وما إن نظر إلى وجه أبيه حتى ارتمى في حضنه آملا أن يجد هذا الصغير الأمان بين ذراعي أبيه بعد أن ظل في كرّ وفرّ مع قوات الأمن طويلا، وهو الحضن ذاته الذي بدد مخاوف الأب من أن يكون ابنه أحد مصابي أو قتلى الأحداث الأخيرة.

وقرب المكان المخصص لتكسير الحجارة قبل نقلها للصفوف الأمامية ليتم استخدامها ضد قوات الأمن، انفجر محمد غضبا: «يرضيك يا بابا يضربوا الناس ويقتلوهم ويضربوا البنات كدا؟.. يرضيك يعني يضربونا ويضربوا أصحابي؟».

محمد الذي لا يكاد يدرك معنى الثورة أو الاعتصام ولم يجرب الظلم والقهر كما عانى الكثيرون، لكنه وقف بكل قوة وظهرت على وجهه علامات التصميم موجها كلامه إلى أبيه: «إذا كنت تريد أن تأخذني إلى البيت فلن أذهب ولن أترك هذا المكان الذي قتلوا فيه أصدقائي حتى آخذ حقهم ممن قتلوهم».

وبينما تظهر في ظلام الشارع بعض الوثائق التاريخية من مبنى المجمع العلمي متطايرة في السماء، يقول محمد: «أنا جئت هنا لكي أعتصم مع أصحابي، وكنت أهتف مع الذين يهتفون وأضرب مع الذين يضربون». غضب محمد من ممارسات الأمن، وهي ليست وليدة اللحظة ولكنها تعود لأيام دخوله عالم المتظاهرين.

هالة موسى، ربه منزل، هي المرأة التي أنقذها محمد قبل عدة أسابيع في اشتباكات مماثلة بشارع محمد محمود القريب من شارع القصر العيني مسرح الاشتباكات الحالية، وتقول: «محمد شاب صغير وعنده حماس ويعمل ما عمله بدافع منه لأنه لا يرى مستقبله.. هو ليس عنيفا ولا بلطجيا، ولكنه متأثر بالظلم الذي رآه ويريد أن يصلحه».

ولكن محمد هذا الصغير الذي أتى والده لحمله إلى المنزل استطاع أن ينزع الخوف من قلب أبيه بعدما أجبره على أن يرى ما يحدث بعيدا عن عيون الكاميرات وشاشات التلفزة، ليقرر الرجل الذي رفض طويلا أن ينزل لميدان التحرير حتى إبان ثورة 25 يناير، وأن يبيت في حضن أبنه، ولكن هذه المرة في قلب الميدان ووسط الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن.