«مظاليم» الثورة الليبية.. عالقون بين اتهامات العمالة وحنين إلى الوطن

أجبرتهم الظروف على التعامل مع نظام القذافي رغم أن بعضهم كان يسعى للتخلص من قبضته

صورة أرشيفية لاثنان من الثوار قبيل مهاجمة الخطوط الأمامية لقوات القذافي في مصراتة بمنصف يونيو (حزيران) الماضي (أ.ب)
TT

«يدعونني بالخائن والعميل!!».. هكذا بدأ جمال قصته التي لم يتمكن من إنهائها قبل أن تسقط الدموع من عينيه، مستنكرا أن أقرب أقرانه وجهوا إليه هذه الصفات دون أن يعطوه فرصة للدفاع عن موقفه، موضحا أن همه يطال كثيرين، ليس من ذوي الأصول الليبية فقط، ولكن من كل دول الربيع العربي على حد سواء، كونهم «مظاليم الثورات».

يبلغ جمال من العمر الآن 59 عاما، حيث ولد في قرية على مرمى حجر من مدينة سرت (التي تتوسط الساحل الليبي في المسافة بين بنغازي شرقا وطرابلس غربا) في عام 1952. وعند بلوغه عامه العشرين، كانت ثورة العقيد القذافي لا تزال في أوجها، وتوجه جمال لدراسة الهندسة بجامعة القاهرة، ويظل بها لمدة أربعة أعوام.

وبعد عودة جمال، الذي طلب عدم تعريفه بالاسم الكامل لأسباب سيتلوها فيما بعد، لعبت علاقات المصاهرة العائلية البعيدة مع عائلة القذافي، والنزعة القبلية، دورا في تيسير أمور حياته.. حيث عين بوظيفة مرموقة بالعاصمة الليبية لمدة 3 أعوام، قبل أن يستغل تلك العلاقات مجددا للحصول على منحة دراسية بالخارج.

وفي روسيا، حصل جمال على درجة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية في عام في عام 1983، ولكنه لم يعد بعدها إلى وطنه، عندما استشعر أن قائد ثورته، الذي سانده الشعب يوما، قد أصابه الشطط. ويقول جمال لـ«الشرق الأوسط»: «توجهت إلى لندن بعد استئذان نظام القذافي بحجة استكمال أبحاثي، وتعاونت مع النظام في بعض المشاريع الاستشارية.. وعلى مدار سنوات، كنت أنتقل للإشراف على تلك المشاريع في ليبيا، ثم أعود إلى لندن»، مستدركا في مرارة: «ولكني لم أجرؤ على إعلان انشقاقي أو تذمري علانية، فقد كنت أعلم عاقبة المنشقين.. وكل العالم يعرف ما كان يمارسه رجال القذافي في أوروبا».

وحين سألنا جمال إن كان يعني ما يثار حول موسى كوسا (آخر وزير الخارجية في حكومة القذافي) ورجاله، أومأ برأسه في صمت، ثم قال: «كانوا يتوعدون المنشقين ويصنفونهم.. وكانوا يرهبون من يفكر في الانشقاق، ويلمحون إلى زوجته أو أولاده دون تهديد صريح.. ولكنه كان كافيا لردع أي شخص عن الانشقاق».

وكان كوسا، الذي انشق عن القذافي بعد قيام الثورة، يقال عنه إنه «الصندوق الأسود» للنظام الليبي، كما وصف بأنه «مبعوث الموت» بعد توليه مسؤولية أمن السفارات الليبية في شمال أوروبا (1978)، ثم عمله سفيرا لليبيا لدى بريطانيا، حيث أشرف على اغتيال عدد من المعارضين الليبيين هناك، واعترف بذلك جهرا، وكان يتوعد بريطانيا بتقديم مساعدات مهمة للجيش الجمهوري الآيرلندي إذا رفضت لندن تسليم معارضين للقذافي.

وتغلب جمال دموعه حين يقول: «يتهمني أبناء وطني، سواء من المغتربين أو من بالداخل، بأنني خائن وكنت عميلا للنظام.. لا أنكر أنني كنت جبانا على مدار أكثر من 30 عاما، ولكنني أبدا لم أخن وطني ولا إخوتي»، ويضيف: «لا أستطيع أن أثبت لهم الآن أنني كنت ناقما مثلهم، وفي أيام الثورة على القذافي، أعلنت ولائي التام للثوار، ولكنهم تحاشوني مخافة أن أكون مدسوسا عليهم من زبانية القذافي».

وبينما جمال عالق في مهجره ومشاعره، تتكرر مأساته مع مئات غيره ممن ظلموا ووقعوا بين مطرقة الثورة وسندان العمالة والخيانة.. ويوجد عشرات من المبعوثين الدراسيين والمقيمين بالخارج ممن خدمتهم الظروف وعوامل «المحسوبية» من قبل نظام القذافي في السفر أو العمل أو الحصول على شيء قد لا يكونون يستحقونه، إلا أنهم يؤكدون أن أخطاءهم تلك لا تعني أبدا أنهم خانوا وطنهم.

وتشير زبيدة (40 عاما) إلى أنها عملت كثيرا مع منسوبين إلى نظام القذافي السابق وأفراد من عائلته بحكم وجودها في لندن، حيث كانت تشرف على منازلهم أثناء غيابهم، أو تنظم لهم الزيارات والمواعيد أو حتى نزهات التسوق.. ولكنها تؤكد في حدة: «أنا ليبية أبا عن جد.. وعلى الرغم من أنني أقيم في المملكة المتحدة منذ 30 عاما، وأحمل جنسيتها، فإنني لن أتخلى عن أصلي».

وتصف زبيدة تعامل الليبيين معها عقب سقوط النظام بأنه «تعامل ظالم ويخلط الأمور»، قائلة: «لو كنت يوما تعاملت مع ليبي بسوء وأنا في مركز قوة، لكان له الحق في ظلمي الآن.. ولكنني كنت في حكم الخادمة، ولم أسئ أبدا لا إلى وطني ولا إلى أي من أبنائه؛ فلماذا يلفظني المجتمع الآن وكأنني كنت أحد أركان النظام؟!».

وفي الداخل الليبي، يعاني آلاف من الليبيين اتهامات مماثلة؛ بعضها يتعلق بالمشاركة الفعلية في قوات القذافي التي حاربت الثورة، وكثير منها يتلخص في أمور لا تتعدى الإقامة في مدن كانت محسوبة على النظام، وأجبر بعضها على مناصرة القذافي حتى النهاية، مثل مدينتي سرت ومصراتة، اللتين احتلتهما ميليشيات ومرتزقة القذافي، حتى أيام قبيل سقوطه.

وبينما يحاول آلاف النازحين الفارين من عدة مدن العودة إلى ديارهم مجددا، يسعى العاملون في منظمات الإغاثة الدولية إلى دعمهم، ومحاولة إعادة دمجهم في مجتمعاتهم من جديد، ومنع أي مواجهات متوقعة مع جيرانهم.

وقال لوران جروبوا، المسؤول عن الحماية بمفوضية الأمم المتحدة للاجئين: «يكون الوضع دائما صعبا على السكان الذين واجهوا أعمال عنف والذين فقدوا منازلهم ونزحوا إلى مكان آخر. خطتنا (ليست خطتنا بل ينبغي أن تكون خطة الليبيين) أعتقد أن الحكومة الجديدة اتخذت خطوة سليمة بالاستماع إلى مخاوف السكان. سنواصل مساعدة هؤلاء السكان في الجوانب الإنسانية بالخدمات والمساندة».

ويتهم سكان مصراتة أهالي بلدة الطوارقة، التي تقع على مسافة نحو 250 كيلومترا إلى الشرق من طرابلس، بالتواطؤ في حصار مدينتهم الذي فرضته قوات موالية للقذافي، وقتل خلاله مئات المدنيين والمقاتلين.. فيما يقول أهالي الطوارقة، الذين قالوا إن عددهم 30 ألفا يقيمون في مخيمات وأماكن مؤقتة للإقامة بأنحاء ليبيا، إن بلدتهم تعرضت للنهب، وأجبر سكانها على الفرار في واحدة من أسوأ حالات الانتقام من الموالين للقذافي منذ الإطاحة بالزعيم الليبي قبل ثلاثة أشهر.