السوريون يتفننون في التعبير عن رفضهم للنظام

من خلال إنشاد الأغاني وإطلاق النكات الساخرة وتصوير مسلسلات تهكمية قصيرة

كتابة كلمة بشار بالأحذية في إدلب أمس
TT

يمكنك أن تطلق عليه تسمية «رقص - ماراثون» للإطاحة بطاغية. من بين المتظاهرين بمختلف أنحاء العالم العربي، تبنى السوريون، خاصة سكان مدينة حمص المهتاجة، أسلوبا موسيقيا غير معتاد في انتفاضتهم. فقد عبروا عن مطلبهم بالتغيير من خلال ألحان جذابة ورقصات جماعية، إلى حد أن مشيعي جنازات الضحايا الذين ملأوا جنبات أحد الشوارع في الأيام الماضية بدأوا في الرقص أثناء تشييع جنازة أحد المتظاهرين، في كسر واضح للتقاليد الكئيبة المتعارف عليها.

«كان مزيجا من رد الفعل البدني والنفسي»، قال الفنان الشاب، واصفا كيف قد بدأ يتحدث ويتصرف من دون قيود في أول مظاهرة في دمشق العاصمة. وأضاف «لم يطلب مني أحد أن أرقص، فقط بدأت من تلقاء نفسي.. كان الأمر غريبا، لكنه راق لي. ثمة تغيير في عقلية السوريين»، متحدثا شريطة عدم الكشف عن هويته، كدأب كثير من السوريين، خوفا من بطش النظام.

على أبسط المستويات، يبرز الرقص أنه على الرغم من أشهر القمع الدموية فإن مشاعر النشوة التي تختلج الناس من خلال سعيهم لنيل الحرية لا يمكن كبتها، على حد قول مشاركين. ويعتبر الغناء والرقص تجسيدا لما يصفه كثير من السوريين باسم التأنق الثقافي واسع النطاق. وبعضه يتم التعبير عنه من خلال شبكة الإنترنت التي توفر قدرا نسبيا من الأمان، وكثير منه ينطوي على دعابة وهجاء. وفي بلد عادة ما يعتبر أفراد شعبه أنفسهم عنيدين وفي حالة من الرعب الشديد من نظام قمعي بدرجة لا تكفل لهم الاستهزاء به على الملأ، يعتبر هذا تحولا ثقافيا ملحوظا.

ويقول عروة نيرينة، المنتج السينمائي «كمجتمع، يجمعنا الخوف. ولم يجمعنا مطلقا رأي مشترك». ويضيف «لكن ثمة شعورا وطنيا جديدا بات يميل بدرجة أكبر للطابع الشعبي. إنه ليس شيئا فرضه علينا النظام».

يتعجب السوريون من سمات النشاط والديناميكية والإبداع التي تميز هذه الانتفاضة. وتسخر صفحة على موقع «فيس بوك»، والتي تحمل عنوان «الثورة السورية»، من النظام السوري من عدة مستويات، على رأسها الصورة الرسمية التي ينقلها النظام عن الانتفاضة، وهي أنها نتاج مؤامرة أجنبية. وتصف صفحة «فيس بوك» كل عمل مناهض للحكومة في سوريا كما لو أنه قد وقع في الصين. فهي تشير إلى دمشق على أنها بكين، وإلى الرئيس السوري بشار الأسد على أنه الرئيس الصيني هو جينتاو.

وتتابع صفحة أخرى على موقع «فيس بوك»، تحمل عنوان «مركز حمص الدولي لغسل الدبابات وتزييتها»، الأحداث بشكل تهكمي ساخر، مطالبة النظام بعدم سحب دباباته من المناطق المدنية خشية أن يؤدي ذلك إلى إفلاسها.

ونظم عدد من محبي المزاح احتجاجات مستترة في الشوارع، من خلال القيام بحركات بهلوانية خطيرة، خاصة في دمشق، لتشتيت انتباه النظام. على سبيل المثال، بث مكبر صوت مخبأ أعلى مبنى في ميدان رئيسي تسجيلا لمظاهرة مناهضة للنظام في حمص. ويقال إن قوات الأمن قد جابت وسط دمشق في محاولة لاكتشاف المتظاهرين. وفي إحدى المرات، صبغت النوافير الرئيسية في العاصمة دمشق باللون الأحمر الدموي. وفي مرة أخرى، كتب المتظاهرون على كرات تنس الطاولة كلمات مثل «ارحل» و«الحرية» بالحبر الأحمر والأزرق، ثم وضعوها على تل أعلى منزل الأسد. وهناك مقطع فيديو يظهرهم يسيرون على الأرصفة محدثين ضجيجا وجلبة، ويؤكد نشطاء على أن قوات الأمن جابت الشوارع لإلقاء القبض عليهم جميعا. ورفض النظام السوري طلبا بإجراء مقابلة مع نجاح العطار، نائب رئيس الشؤون الثقافية، حول التدفق الفني.

ويصعب التحقق من الكثير من هذه الأحداث، نظرا لأن النظام لم يسمح سوى لعدد محدود من الصحافيين الأجانب بدخول البلاد، وكان ذلك لفترة محدودة فقط. غير أن سيلا مستمرا من مقاطع الفيديو الإبداعية ينهال على موقع «يوتيوب». ومن بين أحدث هذه الأعمال مسلسل مؤلف من 15 مشهدا هزليا يحمل عنوان «الأحمق الكبير: يوميات ديكتاتور صغير»، ومصحوب بالترجمة إلى اللغة الإنجليزية. ويجسد المسلسل الأزمة في سوريا من خلال أربع شخصيات من الدمى، من بينها «بيشو»، وهي صيغة تصغير للإشارة للرئيس الأسد. وتجسد الدمية التي طولها بوصتان، ذات الأنف الأعقف والأذنين البارزتين والوجه الطويل النحيل، صورة الرئيس النحيل.

في المشهد الأول، يحلم بيشو بأن النظام قد سقط، ليعيد مساعده العسكري «شبيح» (وهي الكلمة التي تعني السفاح أو قاطع الطريق)، طمأنته بأن 99 في المائة من الشعب ما زالوا يحبونه. وحينما يقرر بيشو ترك منصبه بأي حال، يصيح معاونه قائلا «هل أنت مجنون؟ هل أصابك مس من الجنون؟ هل تعتقد أن القرار متروك لك؟». وقال أحد مبتكري هذه المقاطع، الذي أشار إلى أن الدمى يسهل تهريبها من خلال نقاط التفتيش التابعة للحكومة، إنه راقت له فكرة «تجسيد شخص الرئيس في صورة هذه الدمية الصغيرة».

وقال مصور لقطات الفيديو الذي رفض ذكر اسمه خوفا من بطش السلطات «رغبنا في أن نكسر فكرة أنه إله لا يجوز المساس به، وأن نجسد شخصيته في الواقع». ويؤكد كثير من الفنانين على نقطة بسيطة، ألا وهي أنهم يأملون في أن يحقق تظاهر سلمي تغييرا ديمقراطيا من دون حرب أهلية. وقد تم تصميم الأغنيات والرقصات أيضا بحيث تدحض مزاعم النظام بأن المتظاهرين من الجهاديين، حيث إن معظم الجماعات الإسلامية المتطرفة تحرم الغناء والرقص. «أحد أهم الأمور التي اكتشفها الشعب السوري هو المرح والاستمتاع بالحياة»، هذا ما قاله أسامة محمد، وهو مخرج سينمائي فر إلى باريس. وأضاف «لقد اكتشفوا أسلوب حياة جديدا.. لقد أعادوا اكتشاف أنفسهم».

ويعتبر أصل نشأة رقصات الشوارع غير معروف، على الرغم من أن هناك نظرية تشير إلى أن بداية ظهورها كانت في حمص بعد أن حصرت قوات الأمن المتظاهرين في شوارع ضيقة. وينحدر فن الرقص من رقصات الدبكة التقليدية، وفيها يصطف الرجال على شكل دائرة وأذرعهم متشابكة ويقومون بحركات معينة بأرجلهم ويضربون بها الأرض. وقد تم إدخال تعديلات على الحركات لتتواءم مع المظاهرات التي تشارك فيها أعداد ضخمة من الأفراد عن طريق الرقص في صفوف طويلة.

أحيانا يشبه الرقص موجة تشجيع عارمة في ملعب رياضي، وفي أحيان أخرى يبدو أشبه بحفلات برودواي، من خلال بدء الآلاف في تحريك قبضتهم اليمنى، ثم قبضتهم اليسرى، ثم التصفيق في تناغم أثناء غنائهم.

ويقارن فيلم يحمل اسم «وعد»، والذي سمي بهذا الاسم نسبة إلى حي في حمص، بين الشوارع المظلمة الخطرة التي تعسكر بها دوريات قوات الأمن ليلا والمظاهرات الصاخبة نهارا.

وظهر عبد الباسط الساروت، 22 عاما، وهو مغن كان في ما مضى حارس المرمى الشهير بفريق كرة القدم السوري للشباب، كنجم في هذا الفيلم. وعادة ما يقف الساروت على كتفي رجل آخر، وتظهر بنيته العضلية القوية وهو يقود جموع الحاضرين في إحدى جلسات الزجل التقليدية، ذلك الفن الذي أعيد إحياؤه من جديد أيضا كأحد الفنون الموظفة في الاحتجاجات. في أحد المشاهد، يرتل الحاضرون آية من القرآن الكريم عن النصر، وبعد دقائق قليلة يبدأ الساروت في ترديد أناشيد تتهجم على الأسد. حينها، تشتعل حماسة الحاضرين ويبدأون بالرقص.

في مقال كتبه عن الفيلم، يعبر المؤرخ، إلياس خوري، عن دهشته قائلا «من أين أتت كل هذه الحناجر بالشجاعة للوقوف في وجه القوات المسلحة؟».

يذكر أن النشطاء السوريين لديهم قناعة بأن الضباط الموالين للنظام قد حددوا فنانين كأهداف لهجماتهم، من بينهم هواة. وقيل إن رجلا يحمل اسم إبراهيم قاشوش، قد قطعت حنجرته في الصيف بعد غنائه الأغنية الشهيرة المعادية للنظام «يلا ارحل يا بشار». وقد اتخذ النظام السوري رد فعل يقوم على التحايل والخداع. فقد أعاد أنصار النظام صياغة كلمات أشهر الأغنيات المعادية للنظام، كما تمت مهاجمة بعض المواقع الإلكترونية المستقلة المعارضة للنظام.

وقبل الثورة، اتجه الفنانون السوريون إلى قصر نطاق مناقشاتهم حول الديمقراطية في إطار حدود مقهى الروضة، ملاذهم المفضل في دمشق. ولم يبد أن مطالبهم في التغيير تلقى أي صدى، مما ولد حالة من الكراهية بين الفنانين تجاه الشعب.

لكن تدفق الإبداع قد غير ذلك الوضع. فقد ذكر أسامة محمد، مخرج الفيلم، أن كثيرا من المفكرين قد دهشوا لاكتشاف أن السوريين العاديين يعيشون حياة مزدوجة؛ ففي الصباح، ينظمون مظاهرات مؤيدة للنظام، فيما يصبون لعناتهم على النظام ليلا. والآن، يرقصون للتعبير عن سعادتهم بإظهار مشاعرهم الحقيقية على الملأ. وقال محمد «هذه هي اللحظة التي يلتقي فيها النهار والليل معا». وأضاف «إنها بداية حياتهم كبشر».

* خدمة «نيويورك تايمز»