الأزمة الفرنسية ـ التركية تتفاعل.. وجوبيه يلعب دور «الإطفائي»

ساركوزي من براغ: لا نقبل من أحد أن يفرض علينا سياسته

أعضاء من الحزب الحاكم في تركيا يرفعون شعارات منددة بـ«الصفحات الدموية في تاريخ فرنسا» قرب السفارة الفرنسية في أنقرة أمس (أ.ب)
TT

ولجت الأزمة الفرنسية - التركية منعطفا حادا بعد ردود أنقرة العنيفة على تصويت البرلمان الفرنسي في قراءة أولى على اقتراح قانون يجرم إنكار إبادة الأرمن على أيدي الأتراك بداية القرن الماضي. وبعد القرارات العقابية الدبلوماسية والعسكرية (منع أي زيارات ثنائية واستدعاء السفير التركي في باريس ووقف التعاون العسكري الثنائي ومنع القطع البحرية الفرنسية من التوقف في الموانئ التركية) التي اتخذتها تركيا بحق فرنسا، وصل التصعيد إلى درجة أعلى مع اتهامات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لفرنسا بأنها ارتكبت عملية إبادة الجزائريين بدءا من عام 1945 وخلال حرب تحرير الجزائر. وتوجه أردوغان شخصيا إلى الرئيس ساركوزي الذي اتهمه بالسعي وراء أصوات الجالية الأرمنية في الانتخابات الرئاسية القادمة طالبا منه أن يسأل والده بال ساركوزي عن المجازر الفرنسية في الجزائر باعتبار أنه خدم في هذا البلد في إطار الفرقة الأجنبية وهو بالتالي يعرف عن كثب ما فعله الجيش الفرنسي هناك.

ويترافق التصعيد التركي الذي من المنتظر أن يشمل عقوبات اقتصادية بحق الشركات الفرنسية الموجودة في السوق التركية مع مساعي التهدئة من الجانب الفرنسي التي يقوم بها بشكل خاص وزير الخارجية آلان جوبيه الذي تؤكد المصادر المطلعة أنه نبه ساركوزي من المخاطر المترتبة على التصويت على القانون الجديد. وبعد أن دعا جوبيه المسؤولين الأتراك مساء الخميس لتفادي ردود الفعل «المفرطة»، أعلن ظهر أمس من مدينة بوردو التي يرأس بلديتها أن التصويت «لم يكن عملية موفقة لكن البرلمان قام بذلك»، مما يعني أن ما حصل قد حصل، وبالتالي يتعين تجاوز الأمر.

ويأتي هذا التطور ليربك الوزير الفرنسي ويضعه في موقف حرج، خصوصا أنه زار تركيا الشهر الماضي واستقبل مجموعة من النواب الأتراك الأسبوع الماضي، فضلا عن أنه يعي النتائج السلبية على التعاون الفرنسي - التركي على المستوى الدبلوماسي، وتحديدا على الملف السوري. وتراهن باريس على دور تركي أساسي للضغط على الرئيس بشار الأسد وربما لإقامة ممرات إنسانية أو مناطق آمنة في المستقبل، وهو ما تسعى إليه باريس. وأفادت المصادر الفرنسية بأن تركيا تلعب، في السنوات الأخيرة، دورا مهما في كل المنطقة، فضلا عن أن «النموذج التركي»، أي قيام حكم ديمقراطي ذي صبغة إسلامية آخذ في الانتشار في بلدان الربيع العربي ما يبرز أهمية الدور التركي ومخاطر توتير العلاقات مع أنقرة. وقال جوبيه أمس، إن هناك «كثيرا من الأسباب التي تدفع باتجاه المحافظة على علاقة ثقة وربما صداقة (مع تركيا)، ولذا أدعو إلى امتلاك الأعصاب والاتزان». ولم يتردد الوزير الفرنسي في وصف تصريحات أردوغان بأنها «مبالغ فيها». وفي رسالة إلى الأتراك، دعا جوبيه إلى محاولة «استعادة علاقات صافية»، لكنه نبه إلى أن ذلك سيكون «صعبا»، ومعتبرا أن «الزمن» يمكن أن يفعل فعله. ووصف جوبيه تركيا، في بيان الليلة قبل الماضية بأنها «حليف وشريك استراتيجي» وأن باريس «تأسف» للقرارات التركية.

وبينما يلعب جوبيه دور «الإطفائي» بحثا عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فإن الرئيس الفرنسي التزم لهجة مختلفة، علما بأن الأوساط الفرنسية في الأكثرية والمعارضة تتهم ساركوزي بالوقوف وراء التصويت على القانون الجديد باعتبار أن من طرحه نائبة تنتمي إلى حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الرئاسي الحاكم وبالتالي لو أراد ساركوزي منع التصويت لكان تمكن من ذلك بسهولة عن طريق الطلب من حزبه الامتناع عن طرح مشروع القانون على التصويت.

ومن براغ التي سافر إليها للمشاركة في تشييع الرئيس التشيكي السابق فاتسلاف هافل، سعى ساركوزي ولكن على طريقته إلى تفكيك «اللغم» الجديد بأنه يحترم «قناعات» الشعب التركي الذي وصفه بـ«العظيم»، لكنه بالمقابل يطالبه باحترام قناعات الشعب الفرنسي. وأضاف ساركوزي: «فرنسا لا تعطي دروسا لأحد ولكن لا تقبل أن يعطيها الآخرون دروسا، فهي سيدة في تحديد سياستها، كما أنها لا تطلب لذلك إذنا من أحد». وكرر الرئيس الفرنسي أن بلاده تتمسك بقناعاتها وبحقوق الإنسان واحترام الذاكرة. وفي أي حال، دعا ساركوزي بدوره إلى المحافظة على برود الأعصاب والهدوء مما يستبطن القول إن رد الفعل التركي انفعالي ولا بد من العودة إلى التعاطي العقلاني.

وهب بال ساركوزي إلى نجدة ابنه نيكولا ساركوزي، إذ أكد أنه لم يخدم أبدا في الجزائر خلال فترة انتسابه إلى الفرقة الأجنبية التي بقي فيها أربعة أشهر فقط. ودعا إلى الاطلاع على كل المستندات الرسمية التي تثبت ذلك. وقالت الخارجية الفرنسية أمس، إن «مصلحة البلدين» تقتضي المحافظة على ما تحقق بينهما من تعاون في كافة الميادين الثقافية والتعليمية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والدبلوماسية، وإن باريس «ترغب في استمرار التعاون مع أنقرة في المسائل السياسية الدولية، وتحديدا بخصوص الشرق الأوسط وفي كل الأطر القائمة من مجلس الأمن إلى الحلف الأطلسي والاتحاد المتوسطي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا ومجموعة العشرين الاقتصادية».

ويقيم في فرنسا 350 ألف تركي مقابل 2500 فرنسي يقيمون في تركيا. ويبلغ جم الاستثمارات الفرنسية في تركيا 11 مليار دولار توفر 100 ألف فرصة عمل، بينما بلغت قيمة التبادل التجاري للعام المنتهي 12 مليار يورو.

وقد تكون لاتهامات أردوغان إلى فرنسا بشأن إبادة الجزائريين، تداعيات، خاصة أن باريس رفضت باستمرار الاعتراف بارتكابها مجازر في الجزائر، كما رفضت دوما التعبير عن ندمها إزاء المرحلة الاستعمارية. وكانت هذه المسألة باستمرار أحد أسباب التوتر بين باريس والجزائر، خصوصا بعد أن صوت البرلمان الفرنسي إبان رئاسة جاك شيراك الثانية على قانون يشيد بمرحلة الاستعمار وحسناته في أفريقيا مما أثار حفيظة الجزائريين.