الميزانية القياسية للسعودية تستهدف تنشيط الاقتصاد باستثمارات 312 مليار دولار

الحكومة تنجز 78.6% من خطتها.. وخبراء يؤكدون تسجيل معدلات قياسية فاقت التوقعات

خادم الحرمين الشريفين لدى دخوله اجتماع مجلس الوزراء.. ويبدو الأمير سلمان بن عبد العزيز (واس)
TT

تجسد الميزانية السعودية توجه الحكومة نحو الاستثمار في البنية التحتية، وتوجيه مزيد من الأموال للاستثمار في الداخل وتنشيط الاقتصاد السعودي وتحفيزه بشكل أكبر، مما جعله يسجل معدلات نمو فاقت توقعات خبراء الاقتصاد.

يقول المهندس طارق القصبي، رئيس شركة «الجزيرة للأوراق المالية»: إن الحكومة تتجه، بشكل واضح، للاستثمار في قطاعين مهمين هما الثروة البشرية عبر تخصيص 249.1 مليار ريال (66.5 مليار دولار) 36.2% من الميزانية العامة للدولة لثلاثة قطاعات هي التعليم والصحة والبلديات.

بموازاة ذلك، قال الخبير الاقتصادي السعودي عبد الحميد العمري: إن الميزانية الجديدة التي أعلنت أمس حملت عدة مؤشرات، من أهمها: تسجيل الاقتصاد السعودي لنسب نمو فاقت توقعات البنك الدولي، كذلك استمرارية النمو الاقتصادي الذي تعيشه المملكة؛ حيث أعلنت ميزانية ضخمة لعام 2012 بلغت السقف الأعلى للتوقعات، وحملت في تقديراتها فوائض مالية، مما يشير إلى أن موجهي السياسة المالية ينتظرون مزيدا من النمو في السنوات المقبلة.

يقول العمري: الملف الرئيسي في ميزانية عام 2012 هو الإسكان؛ حيث خصصت المبالغ التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين ضمن ما سمي الأوامر الملكية في النصف الأول من عام 2011، وعلى الرغم من أن هذه الأرقام معلنة، فإن العمري يقول إن أمس شهد بشكل لا رجعة فيه توجهها إلى قطاع الإسكان.

وتطبع الأرقام التي أعلنتها وزارة المالية أمس الخبراء الاقتصاديين بطابع التفاؤل؛ حيث يعتقد العمري أن الأموال التي خرجت خارج السعودية ستعود على وقع النمو الكبير الذي يحققه الاقتصاد السعودي، وستشهد سوق الأسهم السعودية طفرة قد تمتد لخمس سنوات.

كانت الحكومة السعودية قد أعلنت، أمس، ميزانية عام 2012، بمصروفات قدرت بـ690 مليار ريال (184 مليار دولار)، وبمخصصات للمشاريع بلغت 265 مليار ريال (70.6 مليار دولار)، وبتوقعات أن توفر برامج التمويل والصناديق الحكومية قروضا للمواطنين السعوديين بنحو 86.1 مليار ريال (22.96 مليار دولار)، بينما تراجعت نسبة الدين العام إلى نحو 6.3% أي ما يعادل 135.5 مليار ريال (36.1 مليار دولار) بعد أن كانت في عام 2010 عند حدود الـ10% من الناتج المحلي أي ما يعادل 167 مليار ريال (44.5 مليار دولار).

كما سجل الناتج المحلي في عام 2011 زيادة بلغت 28% على عام 2010 ليسجل الناتج المحلي 2.163 تريليون ريال (576.8 مليار دولار).

وبحسب الخبراء الاقتصاديين فإن مصروفات عام 2011 جاءت وفق التوقعات، كما أن الإيرادات أيضا جاءت وفق التوقعات، وحتى من ناحية الفائض الذي كان يرسم حدود الإيرادات فوق حاجز التريليون ريال، مع الإشارة إلى أن الأوامر الملكية كان لها دور كبير في رفع سقف الإنفاق في العام المالي الماضي إلى حدود 804 مليارات ريال (214.4 مليار دولار).

وأرجع المهندس طارق القصبي انخفاض معدل الدين العام من 10% من الناتج المحلي في عام 2010، إلى 6.3% من الناتج المحلي لعام 2011، إلى عاملين أساسيين هما نمو الناتج المحلي بشكل كبير بين العامين 2010 و2011، وكذلك سداد جزء من الدين العام لخفض الفوائد المترتبة عليه ولو كان بسيطا.

وقال القصبي: إن السياسة المالية السعودية تتسم بالحزم والحرص الشديد حتى لا تحدث الوفرة المالية حالة من التضخم في الاقتصاد السعودي، لذلك تضع هامشا من الدين العام تحت السيطرة وتراقبه بحرص شديد.

بالعودة إلى عبد الحميد العمري، الخبير الاقتصادي، فإن أهم ما يميز ميزانية العام المقبل هو تحويل 250 مليار ريال (66.6 مليار دولار) المخصصة لقطاع الإسكان لبناء 500 ألف وحدة سكنية، يقول العمري: على الرغم من أن هذه المخصصات أقرت من قبل فإنها أصبحت واقعا فعليا، والتحدي الأول الذي يواجهه الاقتصاد السعودي، بحسب العمري، لعدة سنوات هو معالجة ملف الإسكان ومعالجة قضية المساكن وتوفيرها بأسعار مناسبة.

وعلى الرغم من التحفظ الذي عادة ما يكون السمة الأبرز عند صانعي القرار المالي في السعودية، فإنها، بحسب العمري، بلغت السقف الأعلى للتوقعات في جانبي الإيرادات والنفقات، كما أعطت الميزانية العامة للدولة مؤشرا بتوقعات تسجيل فائض مالي بنهاية العام الجديد. ويضيف العمري: هذا بدوره يعطي مؤشرا على المستوى العالمي باستقرار الاقتصاد السعودي، وتحقيقه مزيدا من النمو.

يُشار إلى أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز كان قد أطلق خلال حضور قمة العشرين في مدينة تورونتو الكندية منتصف عام 2008، خطة طموحا لتحفيز الاقتصاد بضخ 1.5 تريليون ريال (400 مليار دولار) في مشاريع استثمارية؛ حيث إن السعودية، للسنة الثالثة على التوالي، أنجزت من هذه الخطة نحو 68%، في حين بلغ ما تم ضخه لإنجاز هذه الخطة بإعلان ميزانية عام 2012 قرابة 1.171 تريليون ريال (312.3 مليار دولار)، أي أن الحكومة السعودية أنجزت بحلول العام الرابع من خطة تحفيز الاقتصاد قرابة 78.6%.

يقول العمري: إن السعودية عندما أعنت عن هذه الخطة كانت احتياطياتها النقدية قرابة 1.5 تريليون ريال (400 مليار دولار)، الآن السعودية لديها احتياطيات نقدية تخطت حاجز تريليوني ريال (533 مليار دولار)، ويضيف العمري: «من الواضح أنه مع زيادة الإنفاق تزيد الاحتياطيات ويزيد الدخل»، متوقعا أن تستثمر السعودية في مشاريع البنى التحتية قرابة 2.25 تريليون ريال (600 مليار دولار) بنهاية الفترة التي وضعتها وهي نهاية عام 2013.

وقال العمري: إن السعودية تعيش فترة مواتية لكي تزيد من زخم إنفاقها على مشاريع البنى التحتية، مع استقرار أسعار البترول في حاجز الـ90 دولارا بشكل عام، وفي معظم العام تكون الأسعار فوق حاجز الـ100 دولار.

ونبه العمري إلى أن ملف الإسكان ملف جديد خارج خطة إنفاق 400 مليار دولار، وفي العام الحالي خصص له فقط 250 مليار ريال (66.6 مليار دولار) والتوقعات بحسب العمري تشير إلى أن استمرار الأوضاع الاقتصادية الجيدة بالنسبة للاقتصاد السعودي قد يخصص للملف ذاته في العام المقبل 250 مليار أخرى، أي ما مجموعه 500 مليار ريال (133.4 مليار دولار) خارج خطة الاستثمار المعلنة أمام الاقتصادات العالمية.

ويرى العمري أن من الإيجابيات المهمة التي سجلها الاقتصاد السعودي، هي نسبة النمو غير المتوقعة التي فاقت تقديرات صندوق النقد الدولي؛ حيث تعد الدول التي تجاوزت نسبة النمو فيها معدل الـ4% على الأصابع، بينما الاقتصاد السعودي سجل نموا بنسبة 6.8%، وهو إيجابي جدا؛ فالقطاع غير البترولي سجل نسبة نمو بلغت 7.8%، بينما سجل القطاع البترولي نموا بنسبة 4.3%.

ويشير الخبير إلى أن السعودية منذ عام 2005 ضخت في قطاع الاستثمار في البنى التحتية بمعدل سنوي يقارب 200 مليار ريال (53.4 مليار دولار)، أي أن السعودية تجاوزت في إنفاقها على مشاريع البنية التحتية تريليون ريال (266.6 مليار دولار) على مدى السنوات الماضية، وهذا مؤشر إيجابي، إلا أنه نبه إلى انخفاض عائد الإنفاق. ويضيف: منذ عام 2003 بدأت الميزانية السعودية تسجل سنويا فوائض في إيراداتها، مما زاد من المخصصات للاستثمار في البنى التحتية، إلا أن العائد الاستثماري انخفض من 27% في عام 2003 إلى نحو 10% في عام 2011؛ حيث أكد أن المردود الاقتصادي من المخصصات الاستثمارية انخفض بشكل كبير، مما يشير إلى تدني كفاءة الاستثمار على الرغم من ارتفاع أرقام المخصصات المالية لتنفيذ المشاريع ويضرب مثالا بأن العائد الاستثماري للريال الذي كان ينفق قبل نحو 10 سنوات أكبر من العائد الاستثماري لـ100 ريال اليوم.

وقال العمري: إن التحدي الذي يواجهه الاقتصاد السعودي هو حسن الإدارة وحسن توجيه هذه الثروات الضخمة لتحقق عوائد مالية مجزية تتناسب وضخامتها.

وأكد العمري أن مشاريع ضخمة وضعت لها مخصصات مالية قبل عدة سنوات ولم تنفذ، باعتراف وزارة المالية نفسها، بحسب العمري، في حين تتجاوز قيمة هذه المشاريع 500 مليار ريال (133.4 مليار دولار)، وقال العمري: إن إدراج هذه المشاريع ضمن الخطط وعدم تنفيذها ضرره أكبر من عدم إدراجها؛ لأن عدم التنفيذ يعد هدرا للموارد المالية.

ولفت العمري إلى أن الفترة الماضية اتسمت بإحجام البنوك التجارية عن الإنفاق، مما دفع الحكومة السعودية لأخذ المبادرة وضخ مزيد من الأموال لتنشيط الاقتصاد سواء عبر الإنفاق المباشر أو عبر الصناديق الحكومية، وقال: إن الصناديق الحكومية تخطط لإنفاق ما يعادل 20% مما أنفقته منذ عام 1970؛ حيث أنفقت قرابة 440 مليار ريال (117.3 مليار دولار) بينما في العام المقبل ستنفق قرابة 22.96 مليار دولار، وهذه الأموال كانت تعويضا لتراخي البنوك في التوسع في برامج الإقراض والتمويل.

وأكد أن البيانات التي ترافقت مع الميزانية العامة للدولة (ميزان المدفوعات) توضح هجرة كثير من الأموال إلى الخارج بسبب تراخي دور القطاعين الخاص والبنكي، مما تسبب في هجرة كبيرة للأموال للخارج، والباقي من هذه الأموال تم تدويره في القطاع العقاري بطريقة لا تضيف أي فائدة للناتج المحلي، وتركزت خلال السنوات الأربع الماضية في القطاع العقاري.

وتوقع العمري أن يشهد العام المالي الجديد عودة لرؤوس الأموال المهاجرة، بسبب النتائج الإيجابية التي يسجلها الاقتصاد السعودي، مقارنة بالاقتصادات العالمية، متوقعا أن تحدث هذه الأموال طفرة في سوق الأسهم السعودية تستمر لـ5 سنوات مقبلة، مبينا أن القنوات الاستثمارية لهذه الأموال إما القطاع العقاري وإما سوق الأسهم، موضحا أن القطاع العقاري متضخم للغاية؛ فحجم الأموال التي تدور فيه يقارب 400 مليار ريال (106.6 مليار دولار)، إضافة إلى ما ستضخه الحكومة في قطاع الإسكان لفك الخناق عن هذا القطاع وإحداث طفرة إنشائية في العقارات سيتناسب فيها العرض مع الطلب، وستخفض أسعار العقارات بشكل كبير سيجعله في متناول المواطنين السعوديين بمختلف شرائحهم.

وغلب العمري جانب الاعتقاد بركود القطاع العقاري مع نشاط في قطاع التطوير العقاري وبناء المساكن والاستثمار، معتقدا أن المنفذ الذي سيمتص الأموال العائدة سيكون في الأغلب لفرص حقيقية وستكون النافذة لها سوق الأسهم.

بدوره، قرأ المهندس طارق القصبي أرقام الميزانية السعودية بأنها تجسد التوجه الذي انتهجته الحكومة السعودية لضخ مزيد من الاستثمار في البنى التحتية عبر المشاريع المخصصة للنقل والبلديات والموارد البشرية من خلال التعليم والتدريب والصحة، وقال إن العوائد على هذا الاستثمار عالية؛ لأنها تتيح مزيدا من الفرص الوظيفية للشباب، كما أنها ترتقي بالخدمات والبنى التحتية التي سيكون لها دور في جلب المزيد من الاستثمارات.

وقال إن حجم الإنفاق الضخم الذي تتسم به الميزانية في السنوات الأخيرة يجسد إلى حد كبير التوجه لاستثمار الفوائض المالية الضخمة في إنشاء بنية تحتية حقيقية.

من ناحية أخرى، يرى المهندس القصبي أن معدل الإنفاق على التعليم والتدريب والصحة مؤشر على أهمية تنمية الثروة البشرية في البلد بشكل عام والاستثمار في الإنسان وهو أعلى الاستثمارات تكلفة من الناحية المادية، لكنه في الوقت ذاته الأوفر من ناحية العوائد على المدى البعيد، مشددا على ضرورة أن تأخذ هذه الأموال مسارها الصحيح في بناء القدرات والمهارات للشباب للمنافسة في سوق العمل.